مقتل الإسكنرد الرابع:
وحين كان أنتيجونوس منهمكًا في مشاغله الشرقية وقعت أحداث خطيرة في الغرب. ذلك أن الإسكندر الرابع بلغ عندئذ الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، وأخذ بعض المقدونيين يقولون بأن الوقت قد حان ليتولى السلطة بنفسه، فأراح قاساندروس نفسه من هذه المتاعب بقتل هذا الصبي وأمه (في عام 310 أو أوائل 309), وانتهز أنتيجونوس ذلك وأرسل إلى بولوبرخون صبيًا يدعى هرقل زاعمًا أنه ابن الإسكندر الأ:بر، كما أرسل إليه مالا لتكوين جيش يهاجم به قاساندروس ويؤيد مطالبة هرقل بعرض أبيه، غير أنه عندما هاجم بولوبرخون مقدونيا في العام التالي (309) أفلح قاساندروس في التفاهم معه، فقتل هرقل وانخرط في خدمة قاسندروس.
بطلميوس يستعيد سيادته البحرية و"يحرر" الإغريق:
وقبل ذلك أصابت أنتيجونوس لطمة قاسية ترتبت عليها لطمات أشد قسوة منها. ذلك أن أخاه بولميايوس (Polemaeus) ـ وكان قد أدى إليه خدمات جليلة ضد قاساندرس كوفئ عليها بمنحه ولاية فروجيا على الدردنيل ـ ثار عليه في عام 310 وحالف قاساندروس.
ويبدو أن بطلميوس رأى الفرصة موانية لاستعادة سيادته البحرية ودعمها، فبدأ نشاطه (عام 310) بمحاولة فاشلة للاستيلاء على قيليقيا، تم وجه اهتمامه إلى قبرص فقضى على آخر ملوكها الوطنيين نيقوقريون (Nicocreon) وضم الجزيرة نهائياً وأقام أخاه منلاوس (Menelaos) حاكمًا عليها. وفي العام التالي (309) استغل بطلميوس مبدأ تحرير الإغريق، الذي اعترف به الجميع في صلح عام 311 "ليحرر" بعض المدن الإإريقية. وإذا كان بطلميوس قد فشل في الاحتفاظ بقيليقيا تراخيا (Cilicia – Tracheia) بعد طرد حاميات أنتيجونوس منها، فإنه استولى على بعض قواعد في بامفوليا ولوفيا وقاريا وهي: فاسيليس (Phaselis) وجزانثوس (Xanthus) وقاونوس (Kaunos) وهيراقليا (Heraclea) وبرسيقون (persicon) كما استولى على جزيرة قوس (Cos)، حيث قضى شتاء ذلك العام ورد على ما عرضه عليه بولمايوس من محالفته بدعوته إلى الجزيرة وإعدامه هناك.
ويحتلم أنه حوالي هذا الوقت حاول بطلميوس الزواج من كليوبترة أخت الإسكندر وكانت عندئذ في ساردس، لكن أنتيجونوس دبر قتلها. وعلى كل حال فإن برنيقي الجميلة، وكانت قد أنجبت له أرسينوي، أنجبت له في جزيرة قوس (فبراير عام 308) ابنته المحبوبة الذي خلفه على العرش.
تأليه بطلميوس:
وفي ربيع عام 308 اتجه بطلميوس على رأس أسطول كبيرة إلى أندروس (Andros) وحررها من حاميات بولمايوس وظهر في جزر القوقلاد في ثوب محررها، وبذلك خلف أنتيجونوس في عصبة الجزر التي كان قد ألفها بزعامته. وقد كافأت عصبة القوقلاد بطلميوس على "تحريرها" يرفعه لأول مرة إلى مصاف الآلهة، لكنها لم تعبده إلا فيما بعد باسم "الإله المنقذ". وبعد ذلك عرج بطلميوس على بلاد الإغريق ونزل يبرزخ قورنثة، حيث "حرر" مجاراً وعقد مؤتمراً من ممثلي البلوبونيز أعلن فيه عزمه على تحرير الإغريق وطلب إمداده بمعونة مالية ونوعية، مما أثار الشكوك في حقيقة نواياه، فوافقوا على ما طلبه لكنهم لم يقرنوا القول بالعمل. وعندما دخل سيقوون (Sicyon) وقورنثة ووضع فيهما حاميات بطلمية "لتحمي الحرية الإغريقية"، تأكدت شكوك الإغريق فلم يعبأوا أكثر بدعايته الجوفاء، وإذا كان ذلك كله يدل على أنه كان قد تنازع مع قاساندروس، فإنه لم يلبث أن عقد اتفاقًا معه وعاد سريعًا إلى الإسكندرية.
وما كان بطلميوس يستهدفه من وراء مغامرته في بلاد الإغريق ورغبته في الزواج من كليوبترا؟ أكان يرمي من وراء ذلك إلى فتح بلاد الإغريق، واكتساب حق المطالبة بعرش الإمبراطورية المقدونية أو على الأقل بعرش مقدونيا، فيتسنى له حكم عالم بحر أيجة بأجمعه، نحن نستبعد أنه كان يتطلبع إلى عرش الإمبراطورية المقدونية، إذ أنه لو كان يطمع في ذلك لقبل أن يخلف برديقاس في منصب الوصاية يوم هزمه وعرض عليه الجيش المقدوني ذلك المنصب في عام 321. ونستبعد أيضاً أنه كان يرمي إلى فتح بلاد الإغريق أو الحصول على عرش مقدونيا، لأننا نستبعد أن بطلميوس الحكيم بعيد النظر، كان يخاطر بأن يستثير عواطف الإغريق وبأن يزج بنفسه في صراع عنيف مع مقدونيا، وكان يقبض على زمامها إذ ذاك قاساندروس، حليفة الطبيعي ضد عدوهما العنيد أنتيجونوس.
حقًا أن العلاقات بين الحليفين كانت قد فترت، ولكنه إزاء تهديد خصمهما لم يكن في سوعهما أن يصطرعا، غير أن ما كان بطلميوس قد صادفه من نكبات في عام 311 وأعراض قاساندروس عن شد أزره في أثناء تلك الأزمة دفعاً بطلميوس إلى محاولة الزواج من كليوبترة ليقوى نفسه ويعزز مركز مصر ويرفع شأنها، مثل ما استخدم في ذلك من قبل دفن جثة الإسكندر فيها، كما دفعاه أيضاً إلى محاولة إحياء عصبة قورنثة والظهور أمام الإغريق في ثوب المحرر والنصير، ولاسيما أن تدخل بطلميوس في السياسة الإغريقية لم يكن أمراً جديدًا عليه. فقد رأينا كيف أنه في عام 314 رد على تصريح أنتيجونوس الذي أعلن فيه حرية الإغريق بإصدار تصريح مسائل. وسبب هذا الاهتمام بالشئون الإغريقية أنه كان ضروريًا لبلطميوس، مثل ما كان ضروريًا لسائر الولاة المقدونيين في الشرق، أن يبقى على اتصال بالعالم الإغريقي، فقد كانت تأتي من المدن الإغريقية رءوس الأموال والفنيون الذين كان بطلميوس في حاجة إليهم لتقدم مرافق مصر الاقتصادية. ومن البلاد الإغريقية أيضاً كان بطلميوس يستقدم أكثر المتطوعين والمرتزقة الذين كون منهم قوانه العسكرية.
وفضلاً عن ذلك فإن دعم نفوذ بطلميوس في أهم الموانئ الإغريقية كان يحول دون ازدياد قوة مقدونيا البحرية ويساعد بطلميوس على السيطرة على بحر أيجة. ولعل بطلميوس قد أراد أيضاً بهذه المغامرة أن يثبت لقاساندروس أنه يستطيع تهديده إذا حدثته نفسه ثانية بهجر جانبه في وقت الشدة. وأما استيلاء بطلميوس على عصبة جزر بحر أيجة فإنه كان جزءًا أساسيًا من سياسته الخارجية.
استرداد قوربنايئة:
وإذا كانت سيادة بحر أيجة ضرورية لكيان البطالمة السياسي، فإنه كانت هناك أقاليم أخرى مثل قورينايئة لا غنى لهم عنها لضمان استقلالهم، ولذلك فإنه عندما كان بطلميوس الأول في بلاد الإغريق وسنحت فرصة لاسترداد قورينايئة لم يتوان في العودة سريعًا إلى مصر لهذا الغرض، لأن قورينايئة كانت تعني مصر مباشرة، ومصر كانت دائمًا قلب مملكة البطالمة النابض. وقد أثبتت الأيام أن ضم قورينايئة لم يزد في قوة بطلميوس بل أصبح بمثابة شوكة في جانبه خلفائه، فمن ناحية لم يمثل أهلها للخوضع لسلطة أجنبية لأنهم اعتادوا على الحرية والاستقلال، ومن ناحية أخرى كانت الأطماع الشخصية تغرى حكامها على الخروج على طاعة الملك. وقد كابد بطلميوس جانبًا من هذه المتاعب، فلم تكد تنقضي تسعة أعوام على إخضاع قورينايئة وإقامة أوفلاس حاكمًا عليها حتى هبت ثائرة (313) فأنقذ بطلميوس إليها حملة تأديبية قضت على الثورة وأسندت مقاليد الأمور ثانية إلى أوفلاس. ولم يكد يمر على ذلك عامان (311) حتى انتهز أوفلاس فرصة النكبات التي نزلت بيطلميوس في سوريا للاستقلال بقورينايئة، ويبدو أن أنتيجونوس ساعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقوسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس بأن ينزل له عن الفتوحات التي يحرزانها معًا في إفريقيا بشرط أن يساعده في إخضاع قرطاجنة. غير أنه لحسن حظ بطلميوس اختلف أجاثوقاس مع أوفلاس وقضى عليه (عام 309)، لكنه كان يتعين بطلميوس أن يعيد بسط سيطرته على قورينايئة، ولم يتوان في إسناد هذه المهمة إلى ماجاس ابن زوجه برنيقي (308) الذي يبدو أنه لم يلق عناء في ذلك وأصبح نائب الملك في قورينايئة.
دمتريوس "يحرر" أثيناء ومجازًا من حاميات فاساندرويس:
ولما لم يكن في وسع أنتيجوس أن يترك سيادة بحر أيجة في قبضة بطلميوس وسيادة بلاد بلاد الإغريق في قبضة قاسندروس، لأن ذلك كان يكشف جبهته الغربية بل يتهدد كل مركزه في آسيا، فإنه بادر إلى عقد الصلح مع سلوقس ليوجه اهتمامه إلى الغرب. وقد وجد أنتيجونوس الفرصة سانحة ليقوم بدور "محرر" الإغريق، فأنقذ ابنه دمتريوس إلى بلاد الإغريق حيث نزل في أنيقا على رأس قوة كبيرة (صيف عام 307) وطرد الحامية المقدونية من مونوخيا (Munychia) وأعلن تحرير أثينا وعزل دمتريوس الفليرى وأعاد الديمقراطية ثانية. واعترافاً بفضل أنتيجونوس ودمتريوس أغدق الأثينيون عليها مظاهر تشريف كثيرة كان من بينها عبادتهما باسم "الإلهين المنقذين" وخلع لقب ملك على كل منهما. وفي أثناء محاصرة حامية مونوخيا دخل دمتريوس مجاراً وطرد منها الحامية التي كان قاساندروس قد أقامها هناك. وبعد أن كال أنيجونوس هذه الضربات القاصمة لقاساندروس في بلاد الإغريق، استدعى دمتريوس من هناك ليصغى حسابه مع بطلميوس.
هزيمة بلطميوس في قبرص وضياع سيادته البحرية:
ولما كان أنتيجو نوس يستهدف تحطيم أسطول بطلميوس، وكانت قبرص أهم قواعده البحرية، فإنه أنقذ دمتريوس لمهاجمتها. وفي ربيع عام 306 وقعت عند قبرص ملحمة فاصلة كانت نكبة على ب طلميوس، ذلك أن قائده منلاوس حوصر في ميناء سلاميس، وعندما خف بطلميوس لنجدته مني بهزيمة بحرية فادحة، وبذلك ثأر دمتريوس لهزيمته عند غزة وتحطم الأسطول البطلمي وفقدت مصر قبرص وكل ممتلكاتها الخارجية وسيادة البحر وأصبحت معرضة لخطر مستطير. ولم تعوض هذه الهزيمة إلا ببطء وبعد مدة طويلة اضطر بطلميوس في خلالها إلى العدول عن اتباع سياسة هجومية وإلى العودة ثانية إلى سياسة التمهل والعمل على الإفادة من الحوادث أكثر من الت حكم في تكييف مجراها.
خلفاء الإسكندر يتخذون لقب ملك:
وقد كانت لهذه الهزيمة نتيجة مباشرة أخرى، إذ أنه عندما بلغ أنتيجونوس نبأ النصر اتخذ لنفسه لقب ملك وخلع هذا اللقب على ابنه. ولم يكن معنى ذلك أ، أنتيجونوس اكتفى باعتبار نفسه ملكًا على نصيبه في آسيا بل اعتبر نفسه هو وابنه مليكي الإمبراطورية المقدونية، التي خلا عرشها بالقضاء على أسرة الإسكندر. وتدل نقودهما على أنهما أعتبرا حقهما في هذه الإمبراطورية منذ وفاة الإسكندر.
وتذكر المصادر القديمة أن بطلميوس حذا حذو أنتيجونوس ودمتريوس باتخاذه هو أيضاً لقب ملك، لكن سجل ملوك مصر يؤرخ ملكية يطلميوس الأول ابتداء من العام المصري الذي يمتد من 7نوفمبر عام 305 حتى 6 نوفمبر عام 304. ولم يترتب على اتخاذ بطلميوس لقب ملك في عام 305 اعتبار ذلك العام بداية لعهده، بدليل أن تأريخ الوثائق الرسمية استمر على غرار النمط نفسه الذي كان متبعًا قبل ذلك العام من حيث اعتبار عام 323 بداية لعهد بطلميوس. وإذا كان هناك خلاف حول التاريخ الذي أقدمه فيه خلفاء الإسكندر على اتخاذ هذه الخطوة التي أكدوا بها استقلال كل منهم بولايته وانحلال الإمبراطورية فلا خلاف حول اتخاذ الخطوة نفسها.