كلية الاداب قسم التاريخ جامعة الزقازيق
كلية الاداب قسم التاريخ جامعة الزقازيق
كلية الاداب قسم التاريخ جامعة الزقازيق
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كلية الاداب قسم التاريخ جامعة الزقازيق


 
الرئيسيةبوابه 1أحدث الصورالتسجيلدخولأمل دنقل غواية الحبر I_icon12

 

 أمل دنقل غواية الحبر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المعتمد بن عباد
Admin
المعتمد بن عباد


ذكر الموقع : اندلسى

أمل دنقل غواية الحبر Empty
مُساهمةموضوع: أمل دنقل غواية الحبر   أمل دنقل غواية الحبر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 8:23 pm

إلى الشاعر الذي ركض نحوه الموت وأبى أن يستسلم له
آخر الرغائب.. ختام الأحلام، ولا شيء بقي من تلك السيدة المختالة (الحرية) التي ظلّ عمره يفتش عنها، يسخّر حبره لأجل خطوها، لم يبق سوى رفّة هدب متيبّس، وجملة متقطعة تحتضن حلماً أخيراً، تخرجُ من بين شفتين جافتين، حلما يؤكد رغبة يتيمة، هي الاستماع إلى أغنية «يا ناعسة» التي كتبها صديقه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، وغناها محمد قنديل، وتحققت الرغبة.
راحت الأغنية تتهادى في فضاء الغرفة رقم 8 في المعهد القومي للسرطان:
«يا ناعسة، لا لا، خلصت مني القوالة، والسّهم اللي رماني، هالكني لا محالة»
خلص الكلام، والسّهم الذي اخترق الجسد، لم تعد المجابهة تكفي، ولا التحدي ينفع، فالأغنية تؤكّد الرحيل، وأمل دنقل متمدد على سريره، مستسلم لها، تدخل أذنيه، فيغيب معها ببطء، يغمض عينيه، يفترض نبضه، يتباطأ تتنفسه، وتخرج الرّوح من جسد الذي قال ذات زمن:
«أنا انتظرتُ أن يموت الموتُ: أن يموت/
أسكت في لساني الحروف حتى يورق السّكوت!»

أتراه سكت اللسان حتى يورق هذا الموت المتمدّد على الوجه، بل على الجسد كله؟!
«ترى ماذا تخبّئ في حقيبتك العتيقة.. أيّها الوجه الصّفيق؟ أشهادة ميلاد؟ أم صكّ الوفاة؟»
أم هي إحدى لعبه؟ أم.. لا محالة فقد خلصت القوالة؟
وظلّ صدى صوت الأغنية يتردد في أرجاء الغرفة إلى أن امتدت يد مرتجفة وضغطت على الزّر، ليخيّم صمت جدير بالبياض.
في القصيدة حياة
تقبّل الشاعر أمل دنقل مرضه، إذ لم يبعده قط عن الحبر ومزاولة الكتابة، بل اشتدّ إصراره على التمسّك بالقصيدة، لأن في ذلك تمسكا بالحياة، فقد كانت القصيدة علاجاً رائعاً يخدّر آلامه الجسدية، ويؤجج آلامه الأخرى، ألم يطلق عليه لقب «شاعر الرؤية الموجعة»؟ لقد بدأ كشاعر مع الألم، وظلّ يعزف على سيمفونيته طويلا، تألم بمصاب الواقع العربي، ابتداء من نكبة فلسطين، وجراح النكسة التي ازدادت، حتى ليكاد يحسّ بأوصاله وهي تتقطع، بينما لايزال يرغب في أن يبقى صامداً:
«أسأل يا زرقاء، عن فمك الياقوت، عن نبوءة العذراء، عن ساعدي المقطوع، وهو لايزال ممسكا بالراية المنكسة».
ومع كلّ الألم والجراح العميقة، كان ينبثق من كل قصيدة أمل يشير إلى فجر لم يفقده إيماه، وثقته بمستقبل جديد قادم.
قصائد كتبها لتصبح منشورات يتبع الناس ما فيها لأنها تعبّر عن صوتهم الغاضب، المخنوق في حناجرهم.
كانت تكمل ذلك الطابع قبل مرضه، وبقيت تحمل في حروفها الرسائل، رسائل تمتلئ وعيا وتفجّرا، ناشدا بذلك الحرية (الغاية القصوى).
فهذا المرض الذي ابتليَ به، لم يوقفه عن الشّعور بالانتماء القومي لأمته، ولا اقتلعه من جذوره ورماه في مهبّ الريح، بل ظلّ شديد الانتماء بالوطن، والأرض، والتراث، والإنسان العربي، ووجوده، ومؤرقاته، مؤمنا بكلّ هذا:
«وأرى العيون العميقة،
لون الحقيقة (لون تراب الوطن)».

لا شيء يريدأن يراه سوى الحقيقة، حقيقة الحياة، والتي ظل مخلصا لها، هو الذي بحث عنها في كل الأوقات، في عصر يشوبه الانحدار والتمزق والضعف، وبقي الجنوبيّ الذي لا يشتهي إلا أن يلاقي اثنين، الحقيقة والأوجه الغائبة، وبجسد لا يجيد المرء أن يكون قوياً، راسخاً، بحث عن الحقيقة، جسد أكله السّرطان لكنّه لم يأكل موقفه، وقد أكد الشاعر عبدالمعطي حجازي هذا بقوله شارحا وضع الشاعر: «كان السرطان يأخذ من جسده الناحل، فتزداد روحه تألقا وجبروتا حتى كان باستطاعة زواره، أو عائديه أن يروا صراعه مع الموت رأي العين، صراع بين متكافئين، الموت والشّعر...».
ظل الشاعر أمل دنقل يصارع الموت أربعة أعوام كاملة، يصارع بحبره، بقصائده، إذ كانت عبارة عن مراثٍ ذاتية، يتأمل جسده وهو يتآكل يوماً بعد يوم أمام مرضه الخبيث، فيعلم أنه سيموت بعد أيام أو أسابيع، ولم يترك اليأس يدخله، فقد تابع تسلله من المعهد في منتصف كل ليلة، يخرج من غرفته، فتستقبله شوارع القاهرة كما لو كان معافى، ليستقي مواضيع قصائده من الناس، كان دائماً يقول لابد من النزول إلى الشارع، ودخول التجربة كي يمتلك المبدع الرؤية. والناس في نظره دائماً هم الرؤية، لهذا قدّس اللقاء بهم وهو مريض، متكئ على أنفاسه الأخيرة المتعبة، وعلى سيارة أحد الأصدقاء إذ لم يعد يستطيع المشي، ليعود إلى غرفته، إلى قلمه وأوراقه، يفعل كما كان يفعل دائماً، إذ يلجأ إلى الشعر، حيث يشعر بالقوة، لهذا لم يتخلّ في أي لحظة من لحظات حياته عن سلاحه الوحيد، كان سابقاً يكتبه أينما حلّ، هو المتشرّد في شوارع القاهرة، الضائع الذي لا يعرف الاستقرار أبداً، يقاسم الأصدقاء الغرف والسرير، والرغيف، ولفافة التبغ، والكتب المستعارة، ثم يمضي نزقاً من كل ذلك تاركاً ما يدل عليه ألا وهو الشعر.
الجناح حياة
والجناح ردى،
والجناح نجاة،
والجناح.. سدى!

في حضرة الغرفة رقم 8
صارت الغرفة رقم 8 في معهد السرطان، بطلاً مكانياً، سواء في سيرته أو شعره، يرودها الآخرون، يذكرونها، يحددون موقعها، مواصفاتها، وقد حملت عنوان ديوانه الذي يضم قصائده الأخيرة التي كتبها وهو فيها، وكذلك عناوين كتب ألّفها أدباء بعد رحيله مثل: شاعر الغرفة رقم 8/13، تقع هذه الغرفة في الطابق السابع، إذ غدت المنزل الدائم للشاعر وزوجته، حيث استقرا فيها أكثر من سنة ونصف، هما اللذان لم يعرفا الاستقرار يوما، فقد كانا متراحلين من شقة مفروشة إلى أخرى، ومن غرفة في فندق إلى أخرى، ولأن الإقامة في الغرفة أخذت زمناً فقد زُيّنت جدرانها بصور ولوحات كاريكاتيرية، وقصائد شعر، وبطاقات تحمل تمنيات بالشفاء وقصيدة للشاعر دنقل «ضد مَن» التي نُشرت في جريدة الأهرام، أما على الطاولة فيوجد كتب وأوراق وأقلام وجهاز تلفزيون وشرائط لأغنيات، ومن النافذة يُرى نهر النيل، حيث لم يستطع أمل دنقل أن يغادر الغرفة. تقول زوجته: «انتقل الشارع وانتقل المقهى بأكمله إلى داخل الغرفة رقم 8 أكثر من عشرين زائراً يومياً، حتى صارت وجبة الغداء وجبة جماعية..».
ولعلّ أجمل رسالة، وأكثرها صدقاً، بعثها أحدهم إلى الغرفة رقم 8، والتي جاء فيها:
«نحن الفقراء المتشحون بعاهتنا، لا نملك إلا زهرة ضراعة، بيضاء كي يهبك الله الشفاء، ويهبنا الفرح بذلك».
ومن شدّة فرحه، عاد إلى معهد السرطان ذات يوم في الثالثة صباحاً، حيث غرفته التي تنتظره، بعد أن شارك في مهرجان أحيا ذكرى الشاعرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وقد قرأ أمل دنقل قصيدة «لا تصالح» فأحدثت أثراً لا يمحى، جعلته بالرغم من مرضه وضعفه يصعد الدرجات إلى الطابق السابع، إذ كان المصعد معطلاً والجميع نيام، فصعد إلى غرفته، هو الذي لا يستطيع أن يقف لوحده، أو يخطو خطوة واحدة.
لقد صعد بقوة غواية الحبر، التي دفعته لأن يكتب قصائد لها وقع في نفوس الناس، أتراه نام تلك الليلة، أم هجم على البياض ليحبّره؟
لقد أجّجت مرحلة المرض نتاجه، فكتب قصائد عدة هي: «ضد من - زهور - لعبة النهاية - ديسمبر - الخيول - السرير - الجنوبي».
كان الإنسان هو المحور، الأساس في قصائده قبل مرضه، وها نحن نراه يضيف في مرحلة أعماله الأخيرة، وأعني فترة مرضه الذي أودى به إلى الغياب الجسدي، الجماد والحيوان والنبات! تُرى إلام يرمز ذلك؟ ما الدلالة؟!
يقول الناقد أحمد طه: «لعل هاجس الموت الذي سيطر على رؤيته، في أخريات حياته دفعه إلى التأمل في الكون اللامحدود، تأملاً داخلياً».
ألهذا لم نعد نلمح وجوداً لألم الجسد وشكواه من مرضه الخبيث في قصائده الأخيرة؟!
ضدّ مَنْ
من بياض الصمت إلى
بياضٍ في المكان
هل ملّ الشاعر الصمت فنزع مرّة واحدة قناعه عن وجهه؟!
ذلك الذي «يمارسه مكتسباً بذلك معنى التواصل وكأنه يقول حين لا يقول، وليس حين يقول». عبلة الرويني، الجنوبي ص70.
ولكن لم يكن ارتداء الصمت مجرد قناع، كان كل صمت يتبعه بالضرورة تجربة جمالية جديدة ورؤية مختلفة، ولهذا لم يكن أمل يخاف الصمت، كان الصمت جزءاً لا ينفصل من التجربة الجمالية. الجنوبي ص98.
وبياضه/صمته، لا يكون على الورق فقط، بل يكون في المكان الذي آل إليه إبّان مرضه.
«في غرفة العمليات/كان نقاب الأطباء أبيض/
لون المعاطف أبيض/تاج الحكيمات أبيض/
أردية الراهبات، الملاءات».

ففي هذه القصيدة يصوّر الشاعر الصراع بين الأبيض والأسود، فيلخّص رؤيته للكون من خلال هذين اللونين، فكرة واحدة تتمحور القصيدة حولها، حيث يكثفها الشاعر، ويختزلها، هي فكرة الموت الذي صار هاجسه طيلة فترة مرحلة الشعرية الأخيرة، حيث يدور حوار لا يبين بين الذات الشاعرة المحكوم عليها بالموت، وبين أشياء في الغرفة تدل على الموت بلونها الأبيض، إنّ البياض ينسحب على كل الموجودات التي يراها الشاعر، وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على أن الكفن هو المهيمن، المتناسل، وهو الذي يدحر اللون الأسود، والبياض بحدّ ذاته يدعو الشاعر إلى الاسترسال في الشعر، والضرب على إيقاع الصمت والموت، لأن الصمت بياض، والموت بياض.
«فلماذا إذا متّ..
يأتي المعزّون متشحين/بشارات لون الحداد؟

فالأسود، هو اللون الذي يرتديه الباقون في الحياة، الأحياء أثناء تقديمهم العزاء، وهذا طقس من طقوس الجنازة، بهذا اللون يقيهم من الموت، ويعلن أنهم مازالوا أحياء، والمعتقد الاجتماعي يؤكد أن هذا اللون هو لون الحزن.
لماذا لا يرى الشاعر سوى اللون الأبيض؟! ألأنه اللون الأخير الذي يحيط بالميت؟ وهو في المعتقد الدّيني يطهّر الجسد من الخطايا والذنوب، التي يُرمز لها باللون الأسود، هاهو يراه في غرفة العلاج، يشيع في قلبه الوهن، ويذكره بالكفن الذي سيرتديه، بين هذين اللونين يستقبل الأصدقاء:
«الذين يرون سريري قبراً/وحياتي دهراً».
لكنّه يحدّق في العيون العميقة، فيجد الحقيقة، لون تراب الوطن!
زهور
«وسلال من الورد/ألمحها في إغفاءة وإفاقة/
وعلى كلّ باقة/اسم حاملها في بطاقة».
هؤلاء الأحبة الذين يعاودون الشاعر وهو في غرفته، ويحملون سلال الورد، بينما يكون هو في إغفاءة تارة وإفاقة تارة أخرى، ولكن البطاقات تشي باسم حامل الزهور.
أما القسم الثاني من القصيدة: «تتحدّث لي الزهرات الجميلة/أن أعينها، اتسعت دهشة/لحظة القطف/لحظة القصف/لحظة إعدامها في الخميلة! تتحدث لي إنها سقطت من على عرشها في البساتين...؟
يخيّل إلى الشاعر أن هذه الزهرات تتحدث عن قطفها وإعدامها، وأنّها سقطت عن عرشها، لتباع وتصبح في يد المشترين. نلاحظ كيف بدأ الشاعر قصيدته بصيغة المتكلّم، ثم كيف تحوّل إلى آذان صاغية للزهرات وهي تكلمه، ثم في المقطع التالي يندمج المتكلم والمخاطب ليصيرا شخصاً واحداً:
«كل باقة بين إغفاءة وإفاقة/تتنفس مثلي بالكاد - ثانية، ثانية، وعلى صدرها حملت راضية/اسم قاتلها في بطاقة!». ولسنا ندري هل استحال الشاعر الإنسان إلى نبات، أم النبات إلى إنسان فاكتسب صفات بشريّة؟
«تتحدث لي.. أنّها سقطت من على عرشها في البساتين..».
في قصيدة لعبة النهاية يتخيّل أمل دنقل الموت طفلاً مشاكساً، يجلس في الميادين، يطلق نبلته بالحصي، فيصيب بها مَن يصيب من السّابلة، ثم يتجه صوب البحر، يطرح في الماء صنارة صيد، ليصطاد أحد الصيادين، ثم يعود ليدوّن أسماء من علقوا في أحابيله التي لا مفرّ منها، ثم يممّ وجهه صوب البساتين.
«لا يحب البساتين/لكنّه يتسلل من سورها المتآكل/ يصنع تاجاً جواهره، الثمر المتعفّن/إكليله، الورق المتغضن/يلبسه فوق طوق الزهور الخريفية/الذابلة!
ثم يتحوّل الموت إلى أفعى، والأفعى تدلّ على روح الشرّ والغواية، ولعلّ الشاعر اتخذ من الأفعى رمزاً للموت، اتكاء على الأسطورة.
«يتحول: أفعى.. ونايا/ فيرى في المرايا، جسدين وقلبين متحدين../ يتسلل الموت/ الأفعى إلى شابّين عاشقين، ينسلّ إلى الشاب، ويغرس الناب في جهة القلب، ليسقط رأس الفتى في الغطاء، بينما تبقى الفتاة ذاهلة مما رأت.
وبالأمس باغته الشاعر بوقوفه بجوار سريره، يأخذ هيئة ممرّض، ممسكاً بيد كوب ماء، وبالأخرى بحبوب الدواء، فيتناولها الشاعر بينما راح الممرض يبتسم، وكذلك الشاعر الذي استسلم لمصيره.
لا شيء سوى الموت في القصائد الثلاث التي مرّت، وأنّى له أن يبعده عن تفكيره وهذا الجسد المتهدّم ينبئ عن قدومه في قصيدته التالية «ديسمبر»، حيث يعلن الشاعر موت الطبيعة إذ تتحوّل من خضرة الحياة ولونه الزاهي إلى تساقط الأوراق الباهتة الصفراء، والتي يبدو عليها لون الموت واضحا، فبعد أن تترك الغصن، تلامس أطرافها حافة الأرض، ويصبحن كالجواري، يبحثن عن الذات، يروين رحلة الاغتراب وعبودية الأغصان الثابتة، ثم يدور الموت ليصبح طائر الرّخ، له مخلبان قويّان، يحوم ليحل جثة ديسمبر الساخنة، بينما يصف مفردات الطبيعة كالسحب التي ألقت الشمس طرحتها الداكنة، ليشير إلى الخطر الذي سينجم من القدر، وذلك ليؤثث الشاعر مشهدا يشي باقتراب الموت.
ويتقنّع الشاعر بقناع الراهبات، ليسأل الرّخ عن عدد الجثث التي حملتها مخالبه الأبديّة وأودعتها خلف الجبل؟!
«ما الذي نحن نعطيك؟/ لا شيء إلا توابيت، لا شيء».
بينما تبيّن الراهبات الفرق بين الذين يبقون ممتلئين بالحياة، وبين ما أخذه الرّخ، دون أن يجلب له ذلك ولو قليلا من فرح أو نقطة من مطر القلب، وفي المقطع الرابع من القصيدة يتكلم الشاعر بلسانه:
«قلت للورق المتساقط من ذكريات الشجر/ إنّي أترك الآن - مثلك - بيتي القديم/ حيث تلقي بي الرّيح أرسو/ وليس معي غير: حزني المقيم/ وجواز السفر»!
إنّه استسلام لا عهد للشاعر به، في مرحلة ما قبل المرض، كان شعره محتفياً بالموت حتى أنّه عنون قصائد كثيرة به «موت مغمورة، ميتة عصرية، الموت في الفراش، الموت في لوحات» إذ كان إحساسه به منذ عام 1967 ولكن لم تكن تلك القصائد تحمل معنى الاستسلام للموت، كانت تدافع عن الحياة بقوّة الحياة الموجودة في داخله.
كانت لديه القدرة على المجابهة، لكن حين وقع في أسر المرض أحسّ بنفسه ذلك الطائر الهامد، المهيض الجناح، لا يمكن إلا أن يستسلم.
ولماذا الفرار، والمدى محاصر؟
قصيدة الطيور كانت لتبيّن الفرق بين الطيور المحلقة في السموات، العصية على التدخين، تتقاذفها فلوات الرّياح، قد تتنزل إلى الأرض لتستريح فوق رءوس النخل، التماثيل والأسطح، لتلتقط رزقها، ولكن لهذه الطيور مصيدة يمكن أن تقع فيها لاقتناصها، فالشمس مصدر للضوء، لكنها تطلق سهمها لترشق الطيور وتشلّ حركتها، حين يقول الشاعر:
«رفرف/ ليس أمامك/ والبشر المستبيحون والمستباحون: صاحون/ ليس أمامك غير الفرار..».
بينما الطيور التي أقعدتها معاشرة الناس، أكلت، وارتخت، وارتضت أن تقأقئ، ما الذي تنتظره غير سكين الذبح، فهذه ولاشك نهايتها، فيد بني آدم تعرف كيف تسنّ السلاح. وموت لا يجيء لها إلا إذا وهن الجناح، وصار مستعدا لأن يستقبل الردى.
تعدّ قصيدة الخيول امتداداً للقصائد السابقة التي كتبها أمل دنقل أثناء فترة مرضه من حيث الموضوع، بيد أن في هذه القصيدة يقارن بين ماضي الخيول وحاضرها، لتكون المفارقة بين ماض عظيم يفتخر به، وحاضر عقيم ليس له سوى مواقف التخاذل والضعف:
«كانت الخيل - في البدء - كالناس/ بريّة تتراكض عبر السهول/
كانت الخيل في البدء كالناس/ تمتلك الشمس والعشب/ والملكوت الظليل».

كانت الخيل كالناس، لها ما لهم من حرية، ولم يكن ظهرها موطئا ولا فمها ملجماً، ولا ساقها مقيدة، لا حوافرها يثقلها الحديد، كانت في عصرها الذهبي، أمّا الآن فيطلب منها أن تركض ركضاً بطيئا كالسلاحف، تزيّن زوايا المتاحف، وتصير تماثيل ويجفّ في رئتيها الصهيل، ويعود إلى المقارنة وتوضيح الهوّة بين ما كانت وما آلت إليه.
آخر الأنفاس، هي قصيدة الجنوبيّ، تلك التي راحت شوارع القاهرة تحفظها - كما قالت زوجته - وأخذ الأصدقاء يرددونها، ورأى النقاد فيها الرؤية المكتملة، قال عنها يوسف إدريس: «رفضت تماما أن أقرأ قصيدة الجنوبي الأخيرة، فقد كنت متأكداً تماماً أنني لو قرأتها لاكتملت الرؤية، ولمتّ مثله ومعه». كتاب الجنوبي لعبلة الرويني ص137.
بدأت الصّور تتهادى أمام العينين الغائبتين، فيحار الشاعر أمام إحداها، هل كانت تلك صورة ذلك الطفل؟ أم أنّه طفل سواه؟
الأب جالس وهو واقف، تتدلى يداه، لتشجّه الفرس بضربة منها، فيسيل الدم، ويتذكر أكثر، لقد مات الأب نازفا، وها هي الطريق إلى القبر، وتلك الأخت الصغيرة التي فارقت الحياة.
يحدّق الشاعر الغريب وهو يحس أنه لم يعد له من سنوات ليقضيها، ليس له إلا صدى اسمه، وأسماء بعضهم تنتفض من أعمدة النّعي، وبعض الوجوه تطلع له فيتذكر وجهاً:
«خاض حربين بين جنود المظلات/ لم ينخدش/
واستراح من الحرب/ عاد ليسكن بيتاً جديداً/ ويكسب قوتاً جديداً/
فجأة مات».

فقلبه لم يحتمل سريان المخدّر، ثم عاد طفلا يشارك الشاعر في سريره وفي كسرة الخبز، والتبغ، بيد أنه لا يشاركه في المرارة!
ثم يطلع إليه وجه صديقه القاص الراحل يحيى الطاهر عبدالله من بين الوجوه الغائبة:
«ليت أسماء تعرف أنّ أباها صعد/ لم يمت/
هل يموت الذي كان يحيا/ كأنّ الحياة أبد»!

وأسماء هي ابنة القاص الذي أراد أمل دنقل أن يخبرها أنه عاش منتصباً، بينما ينحني القلب بحثا عنه، وليتها تعرف كابنة جميلة أن تخبئه بين أوراقها وتعلمه أن يسير ولا يلتقي بأحد.
ثم يخاطب الشاعر نفسه عبر مرآة، فيرى وجهه، يقول:
«هل تريد قليلاَ من البحر؟
ويجيب: إنّ الجنوبيّ الذي يكونه، لا يطمئن إلى اثنين، هما البحر والمرأة الكاذبة، ثم يسأل عن الخمر الذي يتهيّب الجنوبيّ من قنينة الخمر والآلة الحاسبة، ثم يسأل عن الصّبر، عن قليل منه، فيجيب:
«لا/ فالجنوبي يا سيّدي يشتهي أن يكون الذي يكنه/
يشتهي أن يلاقي اثنين/ الحقيقة/ والأوجه الغائبة».

أي حقيقة؟!
ها هو بعد أن لفظ آخر الأنفاس قد أدركها، وها هو يلتقي بالأوجه الغائبة التي لم تعد غائبة، بل ماثلة أمامه.
وانتهى الكلام مع سهم الموت الذي أصابه في نهاية التطواف، وكان لابدّ أن يرحب به أمل دنقل، لأن ما لديه من القوالة قد خلص، ولم يعد هناك سوى بياض الصمت المُطبق.
لكنْ!!
على الرغم من قصر حياته فإنّ ما تركه من أثر سيظلّ في الذاكرة أجيالا, لأنه شاعر مبدع أراد زمناً جميلاً يليق به وبالجميلين مثله.
----------------------------
* كاتبة من سورية



getTitleAuthor()

نجاح إبراهيم*

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shabab-tari5h.all-up.com
 
أمل دنقل غواية الحبر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» امل دنقل الاعمال الكاملة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كلية الاداب قسم التاريخ جامعة الزقازيق :: اللغة العربية :: الادب العربى-
انتقل الى: