10- رمسيس الثاني فرعون التسخير ومرنبتاح فرعون الخروج:
وأصحاب هذا الرأي يعتقدون أن خروج بني إسرائيل من مصر كان خروجاً سلمياً ليس فيه مطاردة، وأن مرنبتاح تعقبهم بعد أن وصلوا فعلاً إلى فلسطين، ويعبر عن هذا الرأي ما يراه (( چان يويوت )) ( مصر الفرعونية، مترجم، القاهرة 1966 ص40 ) من أن بني إسرائيل انتهزوا فرصة انشغال جيش مصر في صد غزوة الليبيين لحدود مصر الغربية في السنة الخامسة من حكم مرنبتاح فهربوا من مصر، ثم بعد أن فرغ مرنبتاح من حربه مع الليبيين جرد حملة إلى فلسطين وأباد بني إسرائيل هناك.
ويعتمد أصحاب هذه النظرية على عدة نقاط:
1- ما ورد في التوراة ( خروج 23:2 ) من أن ملك مصر قد مات، أي أن رمسيس الثاني مات وتولى الحكم بعده ابنه مرنيتاح، وقد ذكرنا في الصفحة السابقة أن المفهوم الآخر الوارد في الإصحاح 9:4 هو الأقرب للصحة وأن من مات حقيقة هم أقارب المصري الذي قتله موسى لا الفرعون.
2- كذلك قالوا إن مرنبتاح هو القائل: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ [ الشعراء: 18 ] مشيراً بذلك إلى والده رمسيس الثاني الذي ربى موسى، وإن كان يُرَدُّ على ذلك بالسؤال: ولم لا يكون رمسيس الثاني نفسه هو قائلها ؟ ويكون هو الذي يمن على موسى بحق الرباية، كما أن الأكثر إيلاماً للنفس والأدعى إلى الحزن هو أن يرى من كان يربيه ويرجو المنفعة من ورائه ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ [ القصص: 9 ] هو نفسه الذي كان سبباً في هلاكه فكأنه التقطه ليكون له عدواً وحزناً، كما قرر القرآن الكريم: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [ القصص: 8 ] وبالرغم من كل أسباب الحيطة والحذر الذي اتخذها رمسيس الثاني دفعاً للنبوءة فقد تحققت النبوءة وكان هلاك الفرعون وجنوده ﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [ القصص: 6 ] وهذا أبلغ في العبرة من أن يكون الذي سخر وتكبر وتجبَّر قد مات في سريره ميتة طبيعية في حين يكون الغرق من نصيب ابنه، وخاصة أن مدة حكم رمسيس الثاني طويلة تسمح بوقوع كل الأحداث في عهده، وتكون الآية بلفظ البحر لجثته تمثيلاً به لأفعاله ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ [ يونس: 92 ].
3- إلا أن السند الأساسي لهذه النظرية هو اللوح المسمى (( لوح مرنبتاح )) أو (( لوح إسرائيل )) وقد ذكرناه باختصار في سياق الاعتراضات التي أثيرت ضد نظرية رمسيس الثاني فرعوناً للتسخير والخروج معاً، ومن المناسب أن نتوسع قليلاً في ذكر شيء عن هذا اللوح ما دام هو السند الأساسي لنظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )).
هذا اللوح عبارة عن لوحة تذكارية منقوشة على الجرانيت الأسود مكتوب عليها قصيدة تسجل انتصار مرنبتاح على الليبيين واللوح محفوظ بالمتحف المصري، ومن يريد القصيدة كاملة يمكنه الرجوع إلى كتاب مصر القديمة ( سليم حسن ) جـ7 ص96، والقصيدة في مجموعها فخار بالنصر العظيم الذي أحرزه الملك على الليبيين في السنة الخامسة من حكمه وبه نجت مصر من خطر عظيم، والقصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات المختارة مما أسبغ عليها صورة أدبية أكثر من أن تكون وثيقة تاريخية خالصة، وقد وصف فيها الشاعر هزيمة الأعداء بمهارة والأعمال الجسام التي قام بها (( مرنبتاح )) للذود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات الليبيين وكسر شوكتهم، ولم يفته أن يصف الفرعون بالعدل والاستقامة فيقول: فهو يعطي كل ذي حق حقه، فالثروة تتدفق على الرجل الصالح، أما المجرم فلن يتمتع بغنيمة ما، ثم ينتقل الشاعر إلى وصف السلام والطمأنينة والرخاء التي سادت البلاد بعد هذا الانتصار فيقول: فحتى الحيوان قد ترك جائلاً بدون راع في حين أن أصحابها يروحون ويغدون مغنيين، وليس هناك صياح قوم متوجعين، وفي ختام القصيدة يُعدِّد الشاعر القبائل والأقاليم التي أخضعها مرنبتاح وهذا نصها – لأن هذا الجزء هو بيت القصيد:
ويقول الرؤساء المطروحين أرضاً: السلام! ولم يعد يَرفع واحد من بين قبائل البدو تسعة الأقواس رأسه ( وهذا اسم قديم لجيران مصر المعادين لها ).
(( التحنو )) قد خربت ( إحدى القبائل التي كانت تسكن ليبيا ).
وبلاد (( خاتي )) قد أصبحت مسالمة.
وأزيلت (( عسقلان )).
و (( جازر )) قبض عليها.
و (( بنوم )) أصبحت لا شيء.
وإسرائيل خربت وليس لها بذر.
و (( خارو )) أصبحت أرملة لمصر.
وكل الأراضي قد وجدت السلم.
وكل من ذهب جائلاً أخضعه ملك الوجه القبلي والوجه البحري ابن (( رع )) محبوب ((آمون)) ابن الشمس (( مرنبتاح )) منشرح بالصدق.
معطى الحياة مثل (( رع )) كل يوم.
وأهمية هذه القصيدة في نظر المؤرخين هي ذكر قوم بني إسرائيل وبخاصة لأنها المرة الأولى والوحيدة التي يأتي فيها ذكرهم بالاسم في الآثار المصرية، ولما كان بنو إسرائيل قد بدأوا إقامتهم بمصر أيام يوسف ولم يذكر عن ذلك شيء في الآثار المصرية، فإن ذكر اسمهم هنا لابد له علاقة بخروجهم من مصر، وقد اختلف العلماء حول ما يفهم من هذه العبارة.
فبعضهم مثل پتري ( Petrie, Israel in Eygpt, p.35 ) يرى أن إسرائيل كانوا في الوقت الذي كتبت فيه هذه اللوحة في فلسطين.
--------------------------------------------------------------------------------
أما الأستاذ ناڤيل ( Naville, Archeology of the Old Testament ) فيرى أن اللوحة تدل على أن بني إسرائيل قد خرجوا من مصر قبل (( مرنبتاح )) أو في أوائل حكمه، ولكن هذا الافتراض الأخير يتنافى مع الحقيقة المؤكدة وهي أن فرعون الخروج غرق أثناء مطاردته لنبي إسرائيل، فلا يمكن أن يكون الخروج حدث في أوائل حكم مرنبتاح بل يكون قد حدث في أواخر حكم رمسيس الثاني الذي غرق أثناء مطاردتهم، وهكذا نرى أن لوح مرنبتاح الذي اتخذوه دليلاً لمعارضة نظرية – رمسيس الثاني هو فرعون الخروج – في الحقيقة هو دليل على صحتها. نقطة ثانية يقولها ناڤيل ذلك أنه لا يعتقد أن الإشارة إلى سوريا في اللوحة تشير إلى حرب حقيقة وقعت في سوريا. والحقيقة أنه لا يوجد ما يدل على أن مرنبتاح قد قاد أو سيَِّر حملة إلى سوريا، كما أن ما ذُكر من أن (( بلاد خاتي )) أصبحت مسالمة – هو – كما يقال: من قبيل تحصيل الحاصل لأنها كانت مسالمة منذ المعاهدة التي وقعها والده رمسيس الثاني مع ملكها ويكون ذكر ذلك على أنه من أعمال مرنبتاح هو مبالغة من مبالغات الفراعين التي اشتهروا بها عند تدوين سجل أعمالهم، ولعله أراد الإشارة إلى أنه لم يهمل الجبهة الشرقية وكانت له فيها انتصارات كما أحرز الانتصارات في الغرب على الليبيين.
ويذكر سليم حسن عالم المصريات ( مصر القديمة جـ7 ص111 ) أن علماء الآثار واللغة قد ترجموا الجملة التي وردت عن إسرائيل (( وليس لها بذر )) على وجهين بعضهم قال إن محاصيلهم قد ذهبت أو ليس لهم غلة، والأصح الوجه الآخر كما قال پرستد: وإسرائيل قد أقفروا بذرتهم قد انقطعت أو كما قال ناڤيل: وإسرائيل قد مُحي وبذرته لا وجود لها، والواقع أن كلمة (( بذرة )) تدل على (( الخَلَف )) وفي الدول العربية للآن نجد أنهم يستعملون كلمة (( بذرة )) بمعنى (( النسل )) أو (( الأولاد ))، وسؤال شائع لديهم: كيف حال البذور ؟ ويقال لمن لا نسل له (( لقد انقطعت بذرته )).
كذلك ذكر العالم سليم حسن أن جميع البلاد التي ذكرت: خاتي – جازر – عسقلان وغيرها أُلحق بكل منها رسم مخصص يدل على أنها بلاد أجنبية أما اسم إسرائيل فقد كان الاسم الوحيد الذي استثنى من هذا الرسم وهو ما يعني أنه لم يكن لبني إسرائيل في ذلك الوقت ((أرض محددة )) وكان الرسم الذي ألحق باسم إسرائيل هو صورة رجل وامرأة دلالة على أنهم مجرد جمع من الناس وليسوا (( دولة )) مما يدل على أن الشاعر الذي تغنى بانتصار ((مرنبتاح )) وصاغ هذا النشيد كان يعني أن بني إسرائيل يومئذ لم يكن لهم مكان محدد في أرض فلسطين، ولا سبيل إلى التشكيك في طريقة كتابة القصيدة بما يقال من احتمال خطأ الكاتب المصري القديم وسهوه، فقد كان واعياً لما يكتب وأورد أسماء الشعوب والبلاد الأجنبية في ذلك النص 19 ( تسعة عشر ) مرة لم يغفل رسم رمز الأرض الأجنبية في واحدة منها سواء ما سبق اسم إسرائيل أو ما ورد بعده، ويخلص من ذلك إلى أن أنشودة النصر هذه تشير إلى طائفة من (( بني إسرائيل )) كانت في بعض بقاع فلسطين أو تخومها حين خرج مرنبتاح لقمع ثورة هناك، وهذا يعني أنهم قد خرجوا من مصر قبل عهده، كما يرى الدكتور عبد العزيز صالح ( الشرق الأدنى القديم جـ1 ص255 ) أن لوح مرنبتاح قد اعتبر (( إسرائيل)) من (( نزلاء )) فلسطين ولم يذكر تتبعه لهم من مصر وذلك يعني أنهم دخلوا فلسطين قبل عهده أي أنهم خرجوا من مصر قبل عهده أي في أواخر عصر رمسيس الثاني.
وهنا تبرز مشكلة سنوات التيه، إذ الثابت دينياً أن بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر لم يتوجهوا مباشرة إلى فلسطين بل أمضوا أربعين سنة في التيه في سيناء ثم بعد ذلك توجهوا إلى أرض فلسطين، فإذا افترضنا سنة قبل التيه وسنة بعده للإعداد لدخول الأرض لكان المجموع 42 سنة وفي أثنائها كان قد توفي ستة من الفراعنة:
مرنبتاح .... حكم 10
سنة
سيتى الثاني .. .. 6 سنة
آمنموس .. .. 1 سنة بوصاية باي
سابتاح مرنبتاح .. .. 6
سنة
الملكة تاوسرة
.. حكمت 8
سنة
ست نخت .. حكم 1 سنة
42 سنة
أي أن بني إسرائيل لما بدأوا دخول أرض فلسطين كان رمسيس الثالث هو فرعون مصر أما قبل ذلك فلم يكن لهم وجود في فلسطين، فكيف يحق لمرنبتاح أن يذكر في أنشودة النصر: ((وإسرائيل خربت وليس لها بذر )) أو كما ترجمت: وقد أبدت بذرة إسرائيل ؟
بعض العلماء الذين يتمسكون بنظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )) يُسقطون سنوات التيه من حسابهم وينكرونها ويقولون إن بني إسرائيل توجهوا لفلسطين بعد خروجهم من مصر في آخر حكم رمسيس الثاني وأن مرنبتاح قد طاردهم هناك و (( أباد بذرتهم فعلاً )) ويستدلون على قوة النفوذ المصري في فلسطين أيام حكم مرنبتاح بعثور الأثريين على إناء مكسور عليه كتابة مصرية لأحد جباة الضرائب المصريين في بلدة (( لخيش )) في فلسطين وقد سجَّل فيها تسلمه لشحنة من القمح في السنة الرابعة من حكم مرنبتاح، كما يرى البعض ( د. محمد بيومي مهران. مصر والشرق الأدنى القديم جـ3 ص500 ) أن السيادة المصرية على فلسطين في ذلك الوقت كانت من القوة بحيث لا تتيح لجموع بني إسرائيل – غير المسلحين بأسلحة – دخول أرض فلسطين أصلاً فلا محل للقول بأن بني إسرائيل كانوا قد استقروا في فلسطين لبعض الوقت ثم ذهب مرنبتاح وأباد بذرتهم وأعاد النفوذ المصري إلى فلسطين ثانية.
ويَجُبّ هذا كله أن سنوات التيه ثابتة لورودها في القرآن الكريم وفي التوراة أيضاً فلا محل لإسقاطها أو إنكارها، وما دام الأمر كذلك كيف تسنى لمرنبتاح أن يذكر في اللوح أنه أباد بذرة إسرائيل في حين أنهم كانوا لا يزالون في التيه في سيناء ؟ والجواب هو في أحد الاهتمامات التالية:
1- أنه ذهب إلى فلسطين ووجد بعضاً من (( العابيرو )) – وهم كما ذكرنا أقرباء لبني إسرائيل وفرع منهم – فأبادهم، وظن أو ادعى أنه أباد بني إسرائيل.
2- أنه ذهب إلى فلسطين ولم يجد بني إسرائيل وبحث عنهم في أنحاء فلسطين فلم يجدهم فاعتقد أنهم هلكوا في الصحراء ونسب هلاكهم إلى نفسه.
3- الاحتمال الثالث هو أن مرنبتاح لم يقد أو يرسل حملة إلى فلسطين إطلاقاً، وأنه كما نسب السلام مع (( خاتي )) لنفسه فقد أراد أن يؤكد أنه لم يقل عن سلفه في اهتمامه بأملاك مصر في آسيا، فكان أن ضمَّن نصره على الليبيين نصراً في الشرق أيضاً، فأضاف خاتي وجازر وعسقلان وبالمثل كانت إضافته لاسم إسرائيل وكان ذلك أسهل إذ أنهم لم يكونوا دولة بل قوماً بدون أرض كما هو واضح من طريقة ذكرهم في (( لوح إسرائيل )).
4- ويقول الدكتور محمد بيومي مهران ( مصر والشرق الأدنى القديم جـ3 ص506 ): إن لوح مرنبتاح قد حدد البعض تاريخ كتابته بالعام الخامس من حكم مرنبتاح، وحملة مرنبتاح على سوريا كانت في العام الثالث لحكمه وبما أن الثابت أن الفرعون قد غرق أثناء مطاردته لبني إسرائيل كان معنى ذلك أن هذا اللوح قد كتب بعد غرق الفرعون وكتبه خَلَفه تخليداً لذكرى انتصاره على الليبيين، وأضاف إليهم (( بذرة إسرائيل قد أبيدت )) كنوع من الافتخار الكاذب إذ كيف يتأتى للفرعون وقد غرق أثناء مطاردتهم أن يدعى أنه أبادهم ؟
وما دام الافتخار الكاذب قد وُضع في الاحتمالات فلماذا لا يكون كاتب اللوح هو مرنبتاح نفسه لا خلفه، وأنه هو صاحب الافتخار الكاذب ويكون فرعون الخروج هو رمسيس الثاني وهو الذي غرق أثناء مطاردته لبني إسرائيل.
مما سبق نرى أن لوح إسرائيل أو لوح مرنبتاح – وهو السند الأكبر لنظرية أن مرنبتاح هو فرعون الخروج تأكد عدم صدق الفقرة الواردة به والمتعلقة ببني إسرائيل ويصبح هذا اللوح في حقيقته دليلاً على أن الخروج تم قبل عصر مرنبتاح، وقد أشار چيمس بيكي – عالم الآثار الشهير – إلى ذلك إشارة مقتضية بقوله – وإن مركز مرنبتاح كفرعون الخروج قد اهتز بسبب كشف لوحة النصر أي لوح إسرائيل – ( الآثار المصرية في وادي النيل جـ3 ص171 ).
وبالرغم من كل ذلك فإن هذه النظرية – مرنبتاح هو فرعون الخروج – تلقى قبولاً واسعاً لدى علماء الآثار المصريين والأجانب على السواء، وبلغ التعصب ببعض مؤيدي هذه النظرية إلى حد أن ينكروا غرق الفرعون الذي خرج بنو إسرائيل في عهده، فنرى الدكتور سليم حسن ( مصر القديمة جـ7 ص135 ) يقول: والواقع أنه لا يمكن للإنسان أن يتصور غرق الفرعون وعربته في ماء ضحضاح لا يزيد عمقه عن قدمين أو ثلاثة، بل المعقول أن خيل الفرعون وعرباته قد ساخت في الأوحال وسقط بعض ركابها وهذا يفسر ما جاء في سفر الخروج 25:14. وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقله. ويستمر قائلاً: هذا فضلاً عن أن ما جاء في القرآن الكريم لا يُشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى وطارده قد غرق ومات، بل على العكس نجَّاه الله ببدنه ليكون آية للناس على قدرة الخالق. والتعبير: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ [ يونس: 92 ] تعادل التعبير العامي (( خُلُص بجلده )) !! وهذا منتهى التعسف في تفسير آي القرآن الكريم، إذ أن آيات القرآن الكريم تؤكد بصراحة ووضوح غرق الفرعون هو وجنوده، كما أن مكان الغرق لم يكن قدمين أو ثلاثة كما يدَّعون بل كان: ﴿ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الشعراء: 63 ].
هناك دليل أخير يستند إليه أصحاب نظرية (( مرنبتاح فرعون الخروج )) هو ما يشير إليه عالم الآثار (( سايس )) إذ يقول إن الآثار المصرية تحصر حادثة الخروج في حكم الفرعون مرنبتاح ولدينا بين الأوراق البردية المحفوظة في المتحف البريطاني وثيقة تعرف بورقة ((أنسطاسي السادسة )) وتشمل خطاباً من كاتب الملك مرنبتاح كتبه لرئيسه يقول فيه: إن بعض بدو (( شاسو )) – أدوم – قد سُمح لهم حسب التعليمات التي لديه أن يجتازوا الحصن الذي في إقليم سكوث ( تل المسخوطة ) في وادي طميلات ليُتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من بتوم. ونص الخطاب كالآتي: أمر آخر يا سيدي، لقد انتهينا من ملاحظة مرور قبائل ((شاسو )).. التابعين (( لأدوم )) من حصن (( مرنبتاح حتب حرماعت )) له الحياة والفلاح والصحة في (( سكوث )) نحو برك (( بتوم )) لأجل أن يطعموهم ويطعموا قطعانهم في ضياع الفرعون له الحياة والفلاح والصحة وهو الشمس الطيبة لكل أرض مصر.. ( مصر القديمة، سليم حسن، جـ6 ص588 ).
وتدل وثائق أخرى على أن الحراسة في هذا الوادي كانت شديدة إلى حد بعيد، كذلك كانت المراقبة عظيمة على الطريق الرئيسية إلى آسيا في قلعة (( سيلة )) ( تل أبو صيفة الحالي ) إذ وصل إلينا أجزاء من يوميات موظف في إحدى المدن الواقعة على حدود فلسطين في عهد مرنبتاح دوَّن فيها أسماء المبعوثين والأعمال التي كُلِّفوا أداءها ممن يجتازون هذا الحصن في طريقهم إلى فلسطين، وكان المرور منه محرّماً في عهد رمسيس الثاني إلا لمن كان لديه تصريح بالخروج. ويقول الأستاذ (( سايس )). وهذ الخطاب (( ورقة أنسطاسي السادسة )) كتب في السنة الثامنة من حكم مرنبتاح. ومن البدهي أن هذا لا يمكن أن يحدث إذا كان بنو إسرائيل لا يزالون يقيمون في أرض (( جوشن )). وعلى ذلك فلابد أن واقعة الخروج قد حدثت في وقت ما قبل هذا التاريخ. وهذا يجعل تاريخ الخروج على أية حال قريباً من تاريخ نقش اللوحة. أي أنه يستنتج أن هذا الخطاب يؤيد أن الخروج حدث في عهد مرنبتاح في السنة الخامسة من حكمه ولكنه يختم استنتاجه قائلاً عن زمن الخروج: بل يجوز أن يتقدم عن هذا التاريخ.
ومن المؤكد أن الخروج – استنتاجاً من هذا الخطاب يتقدم عن هذا التاريخ إذ أن وسائل الاتصالات في ذلك الزمن كانت بطيئة، فإذا فرضنا أن الخروج حدث في زمن ما. فقد يمر عام قبل أن تدري الدول المجاورة التي تقع خارج النفوذ المصري – بخروج بني إسرائيل من مصر. وقد يمر عام آخر حتى يتأكد أنهم قد خرجوا من مصر إلى غير رجعة. وقد يمر عام ثالث إلى أن يقرر رؤساء (( آدوم )) إرسال بعثة إلى فرعون مصر ليسمح لرعاتهم بالرعي في الأرض التي كان يقطنها بنو إسرائيل ويمر وقت آخر قبل أن يدرس الفرعون الموضوع مع مستشاريه والتحقق من أن هؤلاء الرعاة ليسوا جواسيس أو أعوان لدولة أجنبية تخطط لغزو مصر. فإذا وضعنا مجموع هذه الأوقات في الاعتبار لعاد بنا زمن الخروج إلى أول عصور مرنبتاح أي آخر عصر رمسيس الثاني.
وهكذا يتضح لنا أن هذا الدليل الأخير (ورقة أنسطاسي السادية ) تشير أيضاً إلى أن مرنبتاح ليس هو فرعون الخروج.
من هذا نخلص إلى أن كل الاعتراضات التي أثيرت ضد نظرية أن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج وعلى أساسها افترضوا أن مرنبتاح هو فرعون الخروج – هذه الاعتراضات بعد تفنيدها انقلبت إلى اعتراضات على نظرية مرنبتاح نفسها وأصبحت دلائل على صحة الرأي القائل بأن رمسيس الثاني هو فرعون التسخير وفرعون الخروج معاً، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن أصحاب هذه النظرية لم يستطيعوا أو بالأحرى لم يجتهدوا في الدفاع عنها.
لقد حاولت هذه الدراسة الإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه وتمحيص الأدلة المقدمة على أوجهها المختلفة وأصبح الميزان الآن يميل لصالح النظرية التي تقول إن رمسيس الثاني هو فرعون التسخير وفرعون الخروج أيضاً. وإن كان البعض قد يرى فيما ذكر بعض الإطالة فما ذلك إلا لاقتناعنا بأن تحديد شخصية هذا الفرعون سيساعد على إبراز جوانب جديدة في قصة موسى عليه السلام كما أنه أثناء سرد القصة – ستتضح للقارئ أدلة أخرى – مستمدة من القرآن الكريم – تؤكد أن رمسيس الثاني هو – بلا شك – فرعون موسى ويكون في ذلك نهاية للجدل الطويل الذي دار حول هذا الموضوع.
مثال ذلك ملخص قصة هذا الفرعون التي وردت في سورة النازعات:
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات 15-26].
فالفرعون طغى بأن سخر وعذب واستعبد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، فذهب إليه موسى وأراه معجزات كثيرة عُبّر عنه جميعاً بلفظ الآية الكبرى فكذب الفرعون وراح يدعي لنفسه الألوهية فنكّل به الله في الدنيا بالإغراق في البحر وفي الآخرة له عذاب النار، والضمير في (فأخذه) عائد إلى (فرعون) الذي طغى فهو فرعون واحد من أول الأمر إلى آخره ونفس هذا المعنى يفهم من هذه الآيات من سورة الدخان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 17-31].
--------------------------------------------------------------------------------
بعد غرق فرعون(رمسيس الثاني) أثناء مطاردة بني إسرائيل، قام أفراد البلاط الملكي ممن نجا من الغرق بتحنيط الجثة ونقل التابوت بواسطة مركب في النيل إلى طيبة يصحبها مراكب أخرى فيها الكهنة والوزراء وعظماء القوم ثم سحب التابوت إلى المقبرة التي كان قد أعدها رمسيس الثاني لنفسه في وادي الملوك.
وفي كل هذه المراحل كانت تتلى الصلوات وتؤدى الطقوس الجنازية المناسبة.
وبهذا انتهت حياة فرعون من أعظم الفراعين. إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق.
وإن كان الستار لم يسدل على قصته. إذ قدر له أن يعود إلى مسرح الأحداث من جديد في عصرنا الحالي.
وبعد موت الفرعون انتشرت جماعات اللصوص. وزادت جرأتها على سرقة المقابر الملكية وشجعهم على ذلك ما كانت تحويه من كنوز عظيمة من حلي وأثاث جنازي. ولعله كان في قرارة أنفسهم أنهم يستردون ما سبق أن أخذه هؤلاء الملوك وهم أحياء منهم ومن آبائهم وأجدادهم.
وضبط اللصوص وعوقبوا أكثر من مرة ثم صارت هذه العملية مهنة الكثيرين حتى إن مقابر كل ملوك الأسرات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين فيما بعد قد نُهبت ولم يسلم منها سوى مقبرة أمنحتب الثاني ومقبرة توت عنخ آمون الشهيرة. ومن مظاهر استهزاء الناس بالفراعنة هو تمثيلهم في رسوم مجونية بعيدة عن الأدب. مثال ذلك رسم يمثل رمسيس الثالث على شكل أسد يلعب الشطرنج.
واستمر نهب المعابد والمقابر وتزايد. ووجهت الاتهامات إلى عمدة طيبة الغربية ورئيس الشرطة والمسؤل عن سلامة المقابر وتمت معاقبة المسؤلين كما هو مُدون في برديات موجودة بالمتحف البريطاني. ولكن السرقات استمرت. واستقر رأي كهنة آمون على الحفاظ على جثث الفراعنة وبالذات جثة رمسيس الثاني فأعيد لفها في كفن خارجي جديد ووضعت في تابوت خشبي عادي للتمويه وتم دفنه في مقبرة والده سيتي الأول مع مجموعة أخرى من جثث الفراعنة السابقين وسُجِّل على الكفن أن ذلك تم في اليوم الخامس عشر من الشهر الثالث في السنة 24 من حكم رمسيس الحادي عشر. ولما كان رمسيس الحادي عشر هو آخر فراعنة الأسرة العشرين وحكم 27 سنة فإن العام الذي أعيد فيه تكفين ودفن جثة رمسيس الثاني كان في عام 1089 ق.م أي بعد وفاته بـ 127 سنة. ولكن العبث بالمقابر الملكية لم يتوقف. وفي عصر الأسرة الحادية والعشرين حينما توفي كبير كهنة آمون "بينودجيم الثاني" قرر زملاؤه الكهنة إنهاء العبث بجثث الفراعنة فجمعوا جثثهم واتخذوا من دفن كبير الكهنة ستاراً ودفنوا الجميع في قبر الملكة " إنحابي" بالدير البحري والذي تم توسعته ليتسع لجميع جثث الفراعنة منذ عصر الأسرة الثامنة عشرة. وأغلقوا القبر ـ وسجلوا أن ذلك قد تم في السنة العاشرة من حكم الملك " سيامون " في عام 969 ق.م.
وردموا المدخل تماماً وضيعوا المعالم حوله حتى لا يستدل عليه اللصوص فبقي القبر الجديد سالماً من عبث اللصوص لأكثر من 2800سنة ونسي تماما وسمي " خبيئة الدير البحري" ويحتوي على جميع المومياوات ومن بينها مومياء رمسيس الثاني.
أين الآية ؟
يمكننا أن نقول إن من عرف بغرق الفرعون عدد محدود هم رجال البلاط والكهنة وإن تسرب النبأ إلى بعض العامة. المهم إن الفرعون توفي كما توفي غيره من الفراعين الذين سبقوه.
وعلى العموم فقد بلغ من العمر أرذله حيث بلغ 90 عاماً وحكم مصر 67 عاماً ولذلك لم يستغرب الناس وفاته. ومن عرف أنه غرق أثناء مطاردته لبني إسرائيل وراجع تعنته معهم ورفضه إطلاق سراحهم أيقن أن الله كان مع بني إسرائيل ونصرهم عليه وكان في غرقه أثناء مطاردته لهم آية ودليل بالغ على انتصار الحق في النهاية مهما بلغت قوة الظلم في البداية.
بعد مطاردته لبني إسرائيل فمن عرف بغرقه أيقن أن موسى على حق وأنه كان على باطل وبعد غرقه تم تحنيطه من قبل أفراد البلاط والكهنة.
قال الله تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [البقرة: 50].
إلى هنا والغرق في حد ذاته هو الآية وحتى لو لم توجد جثته فيكفي أن هذا الفرعون الذي تكبر وتجبر وعذب وسخر قد غرق – وهذا في حد ذاته آية، بقي أن نعرف معنى قوله تعالى:
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [يونس: 92].
ولنعرف الآية المقصودة علينا أن نستكمل ما حل بهذا البدن الذي أنجاه الله.
قلنا إن مومياوات الفراعنة قد أعيد دفنها في خبيئة الدير البحري في عام 696 ق.م وطمست الرمال مدخل القبر ونُسِي الأمر، ومرت قرون، وفي عام 1872م عثر فلاح مصري هو وإخوته مصادفة على مدخل خبيئة الدير البحري وأخفوا اكتشافهم وظلوا يترددون على المقبرة سراً يأخذون ما خف وزنه وغلا ثمنه مثل الجواهر والحلي والأواني التي تحنط فيها الأحشاء وغيرها يبيعونها ويقتسمون ثمنها وكما يقال: إذا اختلف اللصوص ظهر المسروق، فقد اختلف الإخوة وراح أحدهم إلى قسم البوليس واعترف بالأمر بعد أن كانت قد مرت 10 سنوات على اكتشافهم له وفي 6 يوليو عام 1881م ذهب مسئولون من هيئة الآثار المصرية ونزلوا إلى المقبرة وبواسطة 300 من العمال أمكنهم في مدة يومين نقل كل محتويات خبيئة الدير البحري من جميع مومياوات الفراعين وأثاث جنازي في باخرة إلى القاهرة حيث أودعت في المتحف المصري في بولاق، ويقول خبير الآثار إبراهيم النواوي إنه في عام 1902 بعد نقل مومياء رمسيس الثاني قام بفك اللفائف لإجراء الكشف الظاهري على المومياء ولمعرفة ما يوجد تحت اللفائف وهل هناك مجوهرات أو تمائم أو غير ذلك والذي حدث هو أن اليد اليسرى للملك رمسيس الثاني ارتفعت إلى أعلى بمجرد فك اللفائف وهي فعلا تبدو لافتة للنظر بالنسبة لغيرها من المومياوات ( الفرعون الذي يطارده اليهود – كتاب اليوم – سعيد أبو العينين – ص 60) وهو وضع غير مألوف بالنسبة للمومياوات الأخرى التي بقيت أيديهم – بعد فك اللفائف مطوية في وضع متقاطع فوق صدورهم كما هو واضح من مومياء مرنبتاح ومما قاله أحد علماء الآثار عند مشاهدته للمومياء، عجيب أمر هذا الفرعون الذي يرفع يده وكأنه يدرأ خطراً عن نفسه !! لعل قائل هذه الكلمات وهو يلقيها – مجازاً أو تهكماً – لم يخطر بباله أنه قد أصاب – دون أن يدري – كبد الحقيقة، وأنه قد قدم التفسير المحتمل لهذا الوضع الغريب لليد اليسرى لمومياء رمسيس الثاني، وتصورنا لما حدث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام وبالتحديد قبل 3223 عاماً (1225 ق.م + 1998م) كما هو يلي:
قلنا إن فرعون – وجيشه يتبعه – وصل إلى شاطئ البحر فوجد طريقاً مشقوقاً وسط الماء فسار فيه وتبعه الجيش بجميع عرباته، وبدت على وجوه الجميع بسمة الانتصار فما هي إلا ساعة أو بضع ساعة ويتم اللحاق ببني إسرائيل الهاربين وتتم إعادتهم إلى مصر ثانية ولكن قبل النهاية بقليل بدأت قوائم الخيل وعجلات المركبات تغوص في الوحل، ونزل الجنود ليدفعوا العربات المكسورة جانباً لتمر العربات الأخرى، وغاصت البسمة من وجه رمسيس الثاني، وبدأ القلق يتملكه – لماذا في هذه المنطقة بالذات بدأ الوحل ؟ وقد مرت منه جموع بني إسرائيل وبقرهم وماشيتهم وفيها من الثيران ما هو أثقل من المركبات ولم تغص أرجلهم في القاع، ولم يجد بدّاً من الانتظار حتى ينتهي جنوده من تخليص مركبته من الوحل، ونظر ولم يصدق عينيه، ما هذا ؟ إنها موجة هائلة من المياه قادمة نحوه، يا للهول، لقد بدأ البحر ينطبق، والمياه قادمة تجاهه هادرة مزمجرة، وبحركة لا شعورية رفع يده اليسرى الممسكة بدرعه يتقي بها موجة المياه المتدفقة نحوه وكانت لطمة المياه من الشدة وقبضة يده من القوة بحيث حدث تقلص في عضلات ذراعه الأيسر وثبتت ذراعه ويده على هذا الوضع – ولما غشيته المياه وفارقته الحياة ظلت يده على هذا الوضع !
ولا بأس من أن نتوقف قليلاً لنذكر التغيرات التي تحدث في الجثة – أي جثة – بعد الوفاة، ومن المعروف طبعاً أن العضلات هي التي تسبب الحركة في الكائن الحي، والعضلة تتكون من خلايا عضلية، والخلية العضلية تتكون من خيوط عضلية وهي نوعان خيوط سميكة وخيوط رفيعة مرتبة في تبادل على طول العضلة وعند الرغبة في تحريك مفصل ما يصدر أمر من المخ يسري في العصب ويصل إلى العضلة المسؤولة عن حركة المفصل، والتيار الكهربي الصادر من المخ ينتج عنه تفاعلات كيميائية متعددة في موضع الاتصال العصبي العضلي تنتهي بأن تنشط خميرة خاصة تسبب تكسّر بروتين معين هو A. T. P. فيعطي الطاقة اللازمة للحركة فتنزلق الخيوط العضلية السميكة متداخلة بين الخيوط العضلية الرفيع فيقصر طول الخلية العضلية أي يحدث انقباض العضلة وتحدث الحركة المطلوبة.
بعد الوفاة تحدث في الجسد المراحل التالية:
1- بعدما تغادر الروح الجسد تقف كلية أي إشارات صادرة من المخ وترتخي جميع عضلات الجسم وهذا يسمى الارتخاء الأولي.
2- بعد ساعتين يبدأ انقباض لعضلات الجسم كلها وهذا يسمّى مرحلة التيبس الرمّي Rigor Mortis ويحدث التيبس في ترتيب بدءاً بالرأس وانتهاء بالقدم، فتيبّس عضلات الوجه والرقبة ثم الصدر فالذراعين ثم الفخذين وأخيراً عضلات الساقين، ويستمر التيبس الرمي لمدة 12 ساعة تقريباً ويصعب إحداث أي تغيير في وذع الأعضاء أثناءه ولذلك يقوم من حضروا الوفاة بقفل جفون العينين أثناء الارتخاء الأولي حتى لا تظل العينان مفتوحتين فيما بعد.
3- بعد ذلك تبدأ البروتينات المكونة للعضلات في التحلل وترتخي العضلات ثانية وهذا يسمى الارتخاء الثانوي ويبدأ أيضاً من الرأس إلى القدم.
4- ثم يعقب ذلك المرحلة الأخيرة وهي التعفُّن.
هذه هي المراحل التي يمر بها الجسد في حالة الوفاة العادية، أما في حالات الوفيات غير الطبيعية – ولنأخذ كمثال حالات الانتحار، والشخص الذي يقدم على الانتحار يكون في حالة توتر عصبي شديد يبلغ أقصاه في اللحظة التي يزهق فيها روحه ويحدث انقباض في الحال في عضلات الجسم كلها وذلك يسمى التوتر الرمّي Cadaveric Spasm ( بدلاً من الارتخاء الأولي ) ويعقبه التيبّس الرمي وتظل العضلات منقبضة، وكثيراً ما يجد الأطباء الشرعيون يد المنتحر قابضة على المسدس المصوب إلى الرأس ولا يمكن تخليص المسدس إلا بعد أن يحدث الارتخاء الثانوي كذلك قد يجدون يد القتيل وقد قبضت على قطعة من ملابس القاتل أو خصلة من شعره ويكون هذا أول الخيط الذي يتبعه المحققون لتحديد شخصية القاتل فيقبض عليه وينال جزاءه كذلك في حالات الغرق يحدث توتر رمي في اللحظات الأخيرة وكثيراً ما توجد أيدي الغرقى قابضة على قطعة صغيرة من الخشب أو حفنة من طين القاع.
وذلك ما حصل لرمسيس الثاني في لحظة الغرق، إذ بلغ به التوتر العصبي الشديد أقصاه فحدث التوتر الرمّي وتيبّست يده اليسرى على الوضع التي كانت فيه ممسكة بالدرع تتقي به المياه، ولعل لطمة المياه كانت من الشدة بحيث أفلتت الدرع من قبضة يده ولكن اليد ظلت في هذا الوضع وحدث التوتر الرمي وأعقبه التيبّس الرمي، وكان المفروض أن يحدث الارتخاء الثانوي بعد 12 أو 20 ساعة، ولعله حدث في كل أجزاء الجسم إلا في اليد اليسرى فقد بقيت عضلاتها في الانقباض الذي كانت عليه لحظة الغرق ولاحظ المحنطون ذلك وكلما وضعوا الذراع إلى جانبه أو ضموها إلى صدره عادت لترتفع ثانية إلى هذا الوضع وتم التحنيط ودهنت الجثة بالزيوت والرتنجات والمراهم وتسرب بعضها إلى العضلات والمفاصل وأصبحت العضلات مثل المطاط واحتفظت المفاصل بنعومتها، وكلما أعادوا اليد إلى الصدر ارتفعت ثانية فأحكموا ربطها إلى الصدر باللفائف التي كانت تلف بها الجثة وظلت مربوطة إلى صدره، ومرت قرون وقرون وأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولما عثر على الجثة في خبيئة الدير البحري ونقلت إلى متحف بولاق وقام خبير الآثار عام 1902 بفك الأربطة قفزت اليد إلى الوضع الذي تيبست عليه لحظة الغرق وهي ممسكة الدرع ليحمي الفرعون نفسه من لطمة موجة المياه القادمة نحوه ! نحن الآن أمام ظاهرة فريدة لا يوجد مثلها في مومياوات الفراعين الآخرين، ولم يتمكن أحد من علماء الآثار تفسيرها ولا يستطيع الطب الشرعي أن يفسر لماذا لم يحدث الارتخاء الثانوي في هذه اليد بالذات، وكيف احتفظت العضلات بخاصة الانقباض أو اكتسبت خاصية مطاطية في هذه اليد بالذات، وكيف احتفظت العضلات أو اكتسبت خاصية مطاطية بحيث تعيد اليد إلى هذا الوضع بعد ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة، إن قطعة من المطاط الحقيقي لو ظلت مشدودة لمائة عام فمن المؤكد أنها ستفقد خاصيتها المطاطية ولن تعود إلى الانكماش ثانية، فما بالنا بعضلة مفروض ألا تنقبض إلا بأمر صادر من المخ، وحدث بها توتر رمى أعقبه تيبس رمى، ثم لا يحدث – كما هو مفروض – ارتخاء ثانوي وتظل الخيوط السمكية والرفيعة محتفظة بترتيبها وخاصيتها لعدة آلاف من السنين، وما إن يتم فك لفائف الكتان عن اليد حتى تنزلق الخيوط السمكية بين الخيوط الرفيعة فيقصر طول العضلة وترتفع اليد أليس هذا خرقاً لكل ما هو معروف من نواميس الطبيعة ؟ وتعريف المعجزة أنها خرق لنواميس الطبيعة، ولا يكون أمامنا إلا التسليم بأن اليد اليسرى لرمسيس الثاني هي الآية و(من خلفك ) هم الأجيال منذ بداية هذا القرن وتحديداً منذ عام 1902 عندما اتخذت يد رمسيس الثاني هذا الوضع بعد فك اللفائف عنها، وإن كان كثر من الناس قد غفلوا عن مغزاها إلى أن تم لفت النظر إليها.
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [يونس: 92].
بقيت كلمة.. هي قوله تعالى:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46].
وجميع المفسرين يرون أن هذا العرض يكون في البرزخ بالإضافة إلى أشد العذاب الذي سيدخله آل فرعون يوم القيامة فيكون العرض على النار غدواً وعشياً نوعاً من عذاب القبر، وفي حديث صخرة بن جويرة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا مات عرضت روحه على النار بالغداة والعشي ثم تلا: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } وإن المؤمن إذا مات عرض روحه على الجنة بالغداة والعشي ) تفسير القرطبي جـ 15 ص 319).
نقطة أخيرة قبل أن نترك موضوع رمسيس الثاني فقد اقترح البعض تحليل مومياء رمسيس الثاني وتقدير نسبة الملح في الأنسجة للحصول على دليل على غرقه في ماء البحر المعروف بملوحته، ولكن ما سبق أن ذكرناه في مراحل التحنيط أن الجثة – بعد إفراغها من الأحشاء – تملأ بملح النطرون المركز يجعل مثل هذا التحليل غير مجدي
المصدر: كتاب موسى وهارون عليهما السلام من هو فرعون موسى؟ تأليف الدكتور رشدي البدراوي الأستاذ بجامعة القاهرة