3.الثورة في عهد إبيفانس
وإذا كانت حال مصر سيئة في عهد فيلوباتور ، فإنها كانت أكثر سوءًا في عهد ابنته وخليفته أبيفانس . ففي الإسكندرية وقعت إضطرابات شديدة وقتل أجاثوكلس وبطانته وتعاقب الأوصياء على هذا الملك الصغير ، لكنهم إن اختلفوا في الأسماء فقد اتفقوا في الجري وراء أطماعهم .
وفي مصر العليا وفي الوجه البحري، كانت الثورة القومية لا تزال محتدمة وكان أنخماخيس لا يزال يسيطر على الجنوب. ولسنا ندري إذا كان قد حدث في العام السادس من عهد هذا الملك حصار أبيدوس، الذي تذكره عبارة خطها أحد الجنود على جدران معبد ممنون وورد فيها: "أنا فيلوكلس بن فيلوكلس من ترويزن. جئت لأتعبد لسيرابيس في خلال حصار أبيدوس، 28 بؤونة، العام السادس". ولسنا ندري كذلك إذا كان يجب أن نعزو إلى هذا العهد أيضًا ملكًا نوبيًا جديدًا يدعى هيرجونافور (Hyrgonaphor)، كان يحكم أبيدوس وهزم الجيش البطلمي. وعلى كل حال لقد كان أوار الثورة متأججًا في بداية عهد أبيفانس في مصر العليا، وكذلك في مصر السفلي، إذ يحدثنا بوليبيوس وقرار حجر رشيد عن حصار مدينة ليكوبوليس (Lycopolis) بمديرية أبو صير في العام الثامن حكم هذا الملك.
لقد بلغ منسوب الفيضان في صيف ذلك العام (عام 197) حدا غير مألوف، حتى أنه كان يخشى من طغيانه على معدات الحصار التي أقيمت حول ليكوبوليس. وتفاديًا لهذه النكبة، سدت الفرق الملكية القنوات التي كانت تمد جهة ليكوبوليس بالماء وحولت مجراها في اتجاه آخر. وعندما رأى زعماء الثورة أنه لم يعد هناك أمل في الاحتفاظ بموقعهم اضطروا إلى التسليم. وبعد أن يصف قرار الكهنة هذا الحصار والاستيلاء على المدينة، يحدثنا بأن الملك "قتل كل الكفار الذين وجدهم فيها. كما عامل قديمًا هرمس وحورس بن إيزيس وأوزيريس الثوار في نفس المكان". ويلاحظ أن الكهنة يدعون الثوار كفارًا، ويشبهون انتصار الملك على هذه المدينة بانتصار حورس على المدن الثائرة، ولذلك فإن البعض يرى أن هذه الثورة، التي يعتبرها الكثيرون منذ عهد بوايبيوس ثورة مبعثها حقد دفين ضد الإغريق، لم تكن إلا ثورة ضد الملك لأسباب اقتصادية واجتماعية. بيد أنه لو كان الأمر كذلك لأفلحت منح الملك المادية في القضاء على الثورة، ولما رأينا الزراع والجنود يشتركون في الثورة في أعداد متزايدة، مما يدل دون شك على أن الدافع كان قوميًا، وعلى أن المادة لم تستو إلا النفوس المريضة، وعلى أنه وإن استكان بعض الكهنة للبطالمة فإن غالبية الأهالي العظمى كانت تعلل الأمل بطرد الطغاة الأجانب وإقامة فرعون قومي، على نحو ما يبدو لنا من نبوءة صانع الفخار.
وقد انتهز أنطيوخوس الثالث وفيليب الخامس فرصة هذه المشاكل الداخلية، واقتسما ممتلكات مصر الخارجية فلم يبق منها إلا قبرص وقورينائية على نحو ما مر بنا. وإزاء الأخطار الخارجية التي تهدد مصر، فزع حكامها إلى روما ينشدون مساعدتها، فبدأ النفوذ الروماني يلقي ظلاً قاتمًا على دولة البطالمة. وقد ترتب على ضياع ممتلكات مصر الخارجية واضطراب أحوالها الداخلية وقوع تجارة قوافل سوريا في قبضة السلوقيين واضطراب تجارة مصر مع الصومات وتروجوديتكي (Trogodytike)، وضياع أسواقها في بحر أيجة. ولذلك نقصت موارد مصر من التجارة الدولية ومن أملاكها الخارجية نقصًا محسوسًا.
ونستدل من قرار حجر رشيد الذي أصدره الكهنة المجتمعون في منف في عام 196 إجلالاً لابيفانس على سوء حال مصر عندئذ. وتشبه محتويات هذا القرار محتويات القرار الذي أصدره الكهنة بعد موقعة رفح، ومحتويات قرار العفو التي سنعرض لها فيما بعد. وإذا كان قرار الكهنة الذي أصدروه بعد موقعة رفح يستند إلى بيان ملكي، فإن هذا القرار يستند فيما يبدو إلى بيانين أصدر الملك أولهما قبل الإستيلاء على ليكوبوليس وأصدر الآخر بعد هذا الحادث. ويتبين أن الملك وجه البيان الأول لسائر السكان عقب وفاة أبيه، أملاً في وضع حد للاضطرابات التي عمت البلاد، ولذلك عفا عن كل الثوار بوجه عام والجنود المصريين بوجه خاص وأعطى المعابد والسكان عامة عددًا من المنح. ونشمل منح السكان عامة إلغاء بعض الضرائب وتخفيف البعض الآخر، دون تخصيص اسم الضرائب الملغاة أو المخففة، وتنازل الدولة عما تأخر لها من الديون، وفك أسر المسجونين، والسماح للجنود المصريين وكل من خرج على طاعة الملك في أثناء الاضطرابات باسترداد ممتلكاتهم القديمة بمجرد عودتهم إلى مواطنهم. أما منحة للمعابد فكانت متعددة ومتنوعة وتشمل هبات سخية، كإبقاء دخل المعابدومرتباتها السنوية الماليةوالنوعية ونصيب الآلهة من ضريبة الأبومويرا وممتلكاتهم كما كانت في عهد أبيه، وإلا يدفع الكهنة عند رسامتهم ضريبة أكبر مما تقرر في عهد أبيه. وإعفاء الكهنة من الذهاب سنويًا إلى الإسكندرية، وعدم إرغام مزارعي المعابد وعمالها على الخدمة في الأسطول، وإنقاص الضريبة المفروضة على المنسوجات الكتانية الدقيقة بمقدار الثلثين، وإحياء ما أهمل من الطقوس الدينية.
أما البيان الثاني فيبدو أن الملك أصدره بمناسبة تتويجه في منف على نهج الطريقة الفرعونية، وأنه كان يحوي وصف الاستيلاء على ليكوبوليس، والإشارة إلى أن الملك عاقب الذين ثاروا على أبيه وعليه، وأنه أدى المراسم المناسبة لتتويجه، وأنه جاد بمنح عديدة على الكهنة، تتضمن تنازل الملك عما تأخر لدى المعابد حتى العام الثامن من حكمه من الغرامات المفروضة عليها لعدم تسليم مقادير الكتان المقررة للتاج، وإعفاء المعابد من تكاليف فحص الكتان الذي قدمته حتى ذلك التاريخ، ومن ضريبة الأردب عن كل أرورة من أراضي المعابد، وضريبة الكراميون عن كل أرورة مزروعة كروما من هذه الأراضي، وذلك إلى جانب المنح السخية وتأسيس المعابد. ويلاحظ أن إعفاء المعابد من ضريبتي الإردب والكراميون يمثل منحًا دائمة أنقصت دخل الملك نقصًا مستديمًا وإن لم يكن خطيرًا.
ويتكشف قرار حجر رشيد عن صورة قاتمة للحالة التي سادت مصر في أواخر عهد بطلميوس الرابع وبداية عهد الخامس. ولاشك في أن هذه المنح التي مر بنا ذكرها لم تعط عفوًا، بل اقتضاها نقل عبء الضرائب وتراكم ديون الأهالي للدولة وما تبع ذلك من مصادرات الأملاك وحشد السجون بالدائنين ومرتكبي الجرائم وفرار الكثيرين من مواطنهم في كل أنحاء البلاد. قد ترتب على كل ذلك نقص عدد سكان القرى وهجر الأراضي والمصانع وإهمال الترع والجسور، والهاب روح الوطنية وإشعال نار ثورة المصريين ضد طغاتهم، وإذا كانت هذه العوامل قد أدت إلى تدهور الحالة الاقتصادية ودفعت إلى الثورة، فلابد من أن تكون الثورة أيضًا، بما صحبها من الإضراب عن العمل وإهمال المرافق العامة وتخريبها، قد زادت الحالة الاقتصادية سوءًا على سوء.
إن العقاب الصارم الذي أنزله أبيفانس بالثوار في عام 197 والمنح التي جاد بها على المصريين لم تضع حدًا للثورة. ذلك إن قرار حجر رشيد يرجع إلى عام 196، على حين أن الثورة استمرت في الجنوب حتى العام التاسع عشر ـ على الأقل ـ من حكم أبيفانس (186ق.م)، عندما أفلح أحد قواد هذا الملك في أسر أنخماخيس وقاته النوبية في 27 أغسطس سنة 186. وقد خلد هذا النصر قرار عفو نقش على نصب في فيلة، وأحد نقوش معبد إدفو، الذي ينبئنا باستناف أعمال البناء في هذا المعبد عندئذ، بعد وقفه زهاء عشرين عامًا. وقد اعتبر هذا النصر انتصارًا على بلاد النوبة، فإن الكراهية التي أثارها النوبيون في أبيفانس لمساهمتهم في الثورة جعلت أبيفانس يحقد عليهم جمعيًأ حتى أنه محا من آثار فيلة اسم أرجامنس صنيعة فيلادلفوس وصديق فيلوباتور. وبالرغم من القضاء على أنخماخيس في عام 186، فإنه يبدو أن الثورة استمرت في الجنوب حتى عام 184/183، وهو العام الذي قضى فيه على الثورة في الدلتا، عندما استولى بوليكراتس على سايس ومثل الملك بالزعماء المصريين أفظع تمثيل.
ولا يبعد أن هؤلاء الزعماء الذين وصلتنا أسماؤهم ـ وهي أثينيس وباوسيراس وخوفوس وتروباستوس ـ كانوا ينحدرون من سلالة بعض الفراعنة القدماء، ويعللون النفس بإنشاء أسرة حاكمة جديدة من أبناء وادي النيل، بعد تطهير بلادهم من أوضار الاحتلال الأجنبي. وعندما يئس أولئك الزعماء الأبرار من نجاح محاولتهم، سلموا أنفسهم بعد أن أمنهم الملك الإله أبيفانس على حياتهم، لكنه لم يكن إلهًا باطلاً فحسب بل ملكًا مختلاً تغلب فيه حب الانتقام على كل نزعة شريفة، إذ أنه ما كاد يضع يده على الزعماء المصريين حتى وطأ شرفه بقدمه، فقد شد وثاق أولئك الزعماء إلى عجلته الحربية وجرهم وراءه عارين وشوههم ثم أعدمهم.
وتدل وثائق مختلفة على أن حالة مصر العامة لم تتحسن بعد قرار عام 196 حتى نهاية عهد هذا الملك، فإن بقايا وثيقتين، لا نعرف تاريخهما بالضبط لكنه يبدو محتملاً أنهما من أواخر حكم أبيفانس أو بداية عهد فيلومتور، تشير فيما يبدو إلى وقوع اضطرابات وسرقات. ونسمع بأن كومانوس حاكم مديرية أرسينوي استخدم في عام 187 ضابطًا لحراسة مركب تحمل بضاعة له. ولا يبعد أنه كان يرافق هذا الضابط ثلة من الجنود، إذ نسمع كذلك بأنه في خلال حكم بطلميوس الرابع أو بطلميوس الخامس نظمت فئة من المحاربين المصريين (ماخيموي) لتحشد بهم سفن الحراسة في النيل. وقد أطلق عليهم اسم مناسب وهو المحاربون المصريون الذين يحرسون الملاحين (Naukleromachimoi). وفي آخر سنى حكم ابيفانس أو بداية حكم فيلومتور، تشير الوثائق لأول مرة إلى وجود سفن من الأسطول الملكي في النيل بقوادها وملاحيها تحت أمرة وزير المالية، لضمان سلامة الملاحة في النيل والترع. ويلقى خطاب ملكي من عام 184/183 ضوءًا على الحالة المترتبة على الثورة. وهذا الخطاب موجه إلى شخص يدعى سينوموس (Synnomos) ويشير إلى أوامر ملكية أصدرها هذا الملك وأبوه وأجداده. وإحدى فقرات هذا الخطاب تكاد تكون كاملة، وهي تتناول مسألة العيون الذين استفحل أمرهم في خلال الفوضى التي أعقبت الحرب الأهلية. إلى حد دفع الملك إلى أن يصدر إلى رجال الشرطة تلك التعليمات التي يشير إليها هذا الخطاب. وتتضمن هذه التعليمات توبيخ الذين يوجهون إلى الناس تهمًا باطلة بدون قصد سيئ، أما الذين يتهمون الناس باطلاً بقصد استغلالهم وإثارة الأضطراب بينهم فيجب تقديمهم للملك في الحال.
وترينا إحدى فقرات وثيقة من عهد فيلومتور أثر الثورة في حالة الزراعة في الأراضي الملكية في عهد أبيفانس، فإن هرودس وزير مالية فيلومتور يشير في تعليماته المفصلة لمرءوسيه إلى هيبالوس، الذي عرفنا أن القرائن تدل على أنه كان في عهد أبيفانس يتولى منصب الحاكم العام في مصر ـ وهو منصب يرجح أنه أنشئ عندئذ لمواجهة نتائج الثورة الأهلية وإعادة تنظيم شئون البلاد ـ وأنه واجه الظروف الأليمة نفسها التي كان هرودس يواجهها. وقد مر بنا أنه عندما هجر المزارعون مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في خلال الثورة وتركوها دون زرع استصرخ هيبالوس المتيسيرين من مزارعي الملك وأصحاب الأراضي وموظفي الحكومة، وأفلح في حملهم برفق على أن يتحملوا مسئولية سداد المستحق عن الأراضي المهجورة، أو بعبارة أخرى زرعها على مسئوليتهم. ويبدو أن هذه الحكومة إلى حمل (epibole أو Epigraphe) المتيسيرين على زراعة الأراضي المهجورة في أوقات الضرورة، وهو إجراء قدر له أن يلعب دورًا رئيسيًا في الزراعة المصرية في خلال القرون التالية، وأصبح بمضي الزمن تستخدم فيه وسائل أقل لطفًا وأكثر دقة مما حدث في عهد أبيفانس.
إن الظاهرة التي دفعت هيبالوس إلى اتخاذ ذلك الإجراء، الذي يتسم بسمة الظروف القاهرة، كانت خطيرة ودائمة في عهد البطالمة المتأخرين، وهي قلة اليد العاملة وما كان يتبع ذلك من نقص مساحة الأراضي الزراعية ودك دعائم نظام الدولة الاقتصادي. وقد سبقت الإشارة إلى هذه الظاهرة عند الكلام عن منح أبيفانس، لكن هذه المنح لم تؤد إلى تحسين الحالة. وحسبنا دليلاً على ذلك أن قطعة أرض كانت تؤجر في الماضي لقاء أجر معين، ثم يبدو أن إيجارها أنقصى بعد ذلك نتيجة منحة خاصة لأحد الموظفين، ومع ذلك لم يقبل أحد استئجارها في عام 180/179 بهذه الشروط، فتقرر تأجيرها وفقًا لحالتها الراهنة. وفي ضيعة أبولونيوس السابقة، أصبحت توجد مساحات كبيرة من الأراضي البور، وقد حاولت الحكومة استصلاحها فعرضتها بشروط مغرية، تتلخص في إعفائها من الإيجار مدة عشر سنين ثم فرض إيجار أسمى عليها بعد ذلك، قدره دراخمة واحدة عن كل أرورة. وقد أدت سوء حال البلاد الاقتصادية إلى تدهور قيمة العملة في عهد أبيفانس، إلى حد أن نسيبة الدراخمة الفضية إلى الدراخمة البرونزية أصبحت تعادل 1: 423، مما حدا بالحكومة إلى رفع القيمة الإسمية للعملة مرة ثانية .
لقد هدأت الحال نسبيًا في نهاية عهد أبيفانس، الذي تكشف عن عوامل مختلفة تنخر في عظام دولة البطالمة. وتتلخص هذه العوامل في جشع الوزراء والقواد الإغريق والموظفين بوجه عام؛ وازدياد مطالب رجال الدين التي بادر الملك بالاستجابة إليها ليظفر بتأييد نفر منهم على الأقل؛ وثورة غالبية المصريين الذين كانوا ينعون سوء حالهم ويتوقون قبل كل شيء إلى التحرر من ربقة حكامهم الأجانب، فإن المنح المادية لم تكف لإرضائهم ولذلك لم تضع ثورتهم أوزارها إلا تحت ضغط قوة خصومهم المتفوقة؛ وأخيرًا تدهور حال البلاد الاقتصادية نتيجة لفساد نظام الحكم وثورة الأهلي.