منذ الأيام الأولى لوصول طلائع القوات الصليبية إلى مشارف الجزيرة الفراتية والشام، بدا أن ولاة الموصل السلاجقة سيلعبون دوراً حاسماً إزاء الخطر الجديد، نظراً لطبيعة موقعهم الحصين بعيداً عن الأخطار المباشرة للهجوم الصليبي، ولكونهم يمثلون حلقة الوصل المباشر بين القواعد السلجوقية التي يتلقون أوامر عنها، وبين الإمارات الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والشام، والتي وقع على عاتقها عبء التصدي للهجوم الجديد. وكان من أبرز هؤلاء الولاة: آق سنقر البرسقي الذي حكم الموصل في الفترة بين 515 هـ (1121م) و 520 هـ (1126م)
شيء عن الرجل في عام 515 هـ أصدر السلطان السجلوقي محمود أمره بتولية قائده الشهير آق سنقر البرسقي على الموصل وأعمالها، وكان الرجل قد عمل إلى جانب السلطان في معظم حروبه، وكان مخلصاً له، وقد لعب دوراً كبيراً في المعركة الفاصلة التي وقعت بين السلطان وأخيه مسعود، وقام بدور الوساطة بينهما بعد انتهاء المعركة.
وقد اتبع السلطان محمود التقليد المعروف لدى إعلان تولية أمير على الموصل، إذ أمره بجهاد الصليبيين واسترداد البلاد منهم، كما أوصى سائر الأمراء بطاعته، فسار البرسقي إلى الموصل على رأس جيش كبير، وأقام فيها بعض الوقت ريثما يدبر أمورها ويصلح أحوالها.
امتاز الرجل –أكثر من غيره- بالنشاط الدائب والحركة السريعة، فهو تارة في الشام يجاهد الغزاة، وتارة أخرى في بغداد وجنوبي العراق يقاتل الخارجين عن طاعة السلطان والخليفة العباسي، وتارة ثالثة على مشارف حلب مستجيباً لنداء أهلها بإنقاذهم من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي تردّوا فيها خلال تعرضهم للهجمات الصليبية، وقد استطاع البرسقي أن يكسب ودَّ الأمراء المحليين وعلى رأسهم طغتكين حاكم دمشق، كما اكتسب عطف الخليفة العباسي باشتراكه إلى جانبه في حروبه ضد الخارجين عليه، فضلاً عن أنه اكتسب محبة الأهالي سواء في الموصل حيث مقر ولايته، أم في المنطقة –بصورة عامة- حيث اشتهر كأحد قادة الجهاد ضد الغزاة.
كان البرسقي –كما يصفه المؤرخون- عادلاً، حميد الأخلاق، شديد التدين، محباً للخير وأهله، مكرماً للفقهاء والصالحين، وكان شجاعاً نال احترام وتقدير الخلفاء والملوك، ليِّناً، حسن المعاشرة، كثير الصلاة، عالى الهمة؛ وبذا أجمع معظم المؤرخين على أنه كان من خيار الولاة.
الصليبيون.. وإهانة كتاب الله
والحق أن أهم ما أنجزه البرسقي خلال فترة ولايته على الموصل هو استلامه شؤون الحكم في حلب وحله لمشاكلها وضمها إلى الموصل، الأمر الذي أتاح قيام وحدة بين البلدين كان لها أبعد الأثر في الصراع الإسلامي الصليبي.
كان الصليبيون قد شددوا هجماتهم على حلب والمناطق الزراعية المحيطة بها، وأنزلوا بها خسائر فادحة، وتولى الهجوم أميرُ أنطاكية والرها، ثم ما لبثوا أن فرضوا الحصار عليها من شتى جهاتها »ووطنوا أنفسهم –كما يقول ابن الأثير- على المقام الطويل، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر«.
وتعدى الأمر ذلك إلى نبش قبور المسلمين وتخريب مشاهدهم.. ويحدثنا المؤرخ الحلبي ابن العديم أنهم أخرجوا جثث الموتى، وعمدوا إلى من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا الحبال بأرجلهم وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، وراحوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وأخذوا مصحفاً من أحد مشاهد حلب المجاورة ونادوا: يا مسلمون أبصروا كتابكم، ثم ثقبه أحد الفرنجة بيده وشدّه بخيطين وربطه بأسفل برذونه، فراح هذا يروّث عليه، وكلما أبصر الفرنجي الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً!
لم يكتفِ الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطروا هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وأخذت جماعات من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على معسكرات الأعداد، وترددت الرسل بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى حتى ضاق الأمر بالحلبيين حيث قلّت الأقوات وانتشر المرض، واتبع أمراؤهم المتسلطون عليهم أشد الأساليب ظلماً وعسفاً، وحينذاك قرروا تشكيل وفدٍ يغادر حلب سراً إلى الموصل للاستنجاد بالبرسقي.
النجدة
كان البرسقي حينذاك (518 هـ) مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس من الدخول عليه، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول، أذن لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم البرسقي: »إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض، ولكني قد جعلت لله علي نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم«.
ولم تمضِ ثلاثة أيام على مقابلته للوفد حتى فارقته الحمى وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل ونادى قواته أن تتأهب لقتال الصليبيين واستنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد، فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخير خان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته، وبعثا بعساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالسس القريبة من حلب..
ومن بالسس أرسل البرسقي إلى مسؤولي حلب، وشرط عليهم –مسبقاً- تسليم قلعة حلب لنوابه كي يحتمي بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين، فأجابوه إلى طلبه، وما أن استتب الأمر لنواب البرسقي، واطمأن الرجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب قوات الصليبيين التي تطوق حلب.
وصلت طلائع قوات البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 518 هـ، وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوش على الطريق إلى أنطاكية، وهكذا غدوا مدافعين بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لاستقبال البرسقي لدى وصوله.
إصلاحات داخلية وقد أدرك البرسقي ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعسكره قد تعرّض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد الجيوش المتقدمة إلى معسكراتها في حلب، وقال موضحاً خطته هذه: »ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم«. ومن ثَم دخل البرسقي حلب وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء المصادرات، وعمت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما منوا به من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي.
ولم يكتف البرسقي بذلك بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعانيها الحلبيون. وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية، حيث هطلت مقادير كبيرة من الأمطار فأخصبت الأرض، كما عاد النشاط التجاري إلى عهده السابق اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار.
قيمة الانجاز وهكذا استطاع البرسقي أن يحطم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلص هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية، ويوحده مع الموصل لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهذا القائد، ولعماد الدين زنكي من بعده، أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة، ذلك أن حلب هي القاعدة الثانية في الشمال بعد الموصل، وهي الحصن الأخير الذي وقف بوجه الزحف الصليبي في المنطقة باتجاه الشرق، إذ كانت تتمتع بمركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والاقتصادية وخطوط المواصلات، وبالرغم من وقوعها بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، إلا أنه كان بإمكانها الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي الشام، مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد وتحقيق أهداف حاسمة ضد العدو، هذا فضلاً عن عمق وتوثق الصلات الاقتصادية والجغرافية بين حلب والموصل منذ أيام الحمدانيين، ومن ثم تعتبر المدينتان مكملتين إحداهما للأخرى.
وكان مما يزيد في قيمة الاستيلاء على حلب، أنها بفضل موقعها على ثغر المسلمين ومعقلهم تجاه الغزاة، أضْفَتْ على أمير الموصل صفة المدافع عن الإيمان ضد الكفار، كما أن قوة الشعور الإسلامي يجعل من العسير على السطان السلجوقي أن يتخذ ضد أميراها إجراءً صارماً، يضاف إلى ذلك أن البرسقي، باعتباره ممثلاً للسلطان السلجوقي، صار له السلطة الشرعية الوحيدة بين الإمارات التي شكلها البرسقي والممتدة من نهر قويق إلى نهر دجلة نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ولم يكن الغزاة الذين وحّد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها. وما حدث –إذاً- من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام.
بدء العمليات لم يكن بوسع الميك بلدوين –بعد أن رأي ما حدث- سوى العودة إلى أنطاكية ومنها إلى بيت المقدس الذي غاب عنه مدة سنتين، إلا أنه لم يمكث هناك زمناً طويلاً، فقد كان البرسقي في نظره شديد الخطورة، إذ كان بوسعه أن يوحد المسلمين بشمال الشام تحت سلطانه، كما خضع لقيادته أميرا دمشق وحلب، وكان البرسقي –بعد أن أقرَّ الأوضاع في حلب- قد غادرها في مطلع عام 519 هـ صوبَ تل السلطان ومنها إلى حصن شيزر، وإذ حرص أميرها سلطان بن منقذ على أن يكون صديقاً لكل رجل عظيم الأهمية فقد سلمه رهائن الصليبيين الذي كانوا قد أودعوا لدى بني منقذ ريثما يتم تنفيذ بنود المعاهدة التي كانت قد عقدت بين الغزاة وأمراء ديار بكر، وقد أقام البرسقي في أرض حماة أياماً لحين وصول طغتكين على رأس قواته، وحين ذلك رحل البرسقي على رأس جيش مؤلف من القوات الإسلامية المتحالفة وهاجم حصن كفر طاب الذي كان بحوزة الغزاة وتمكن من الاستيلاء عليه في مطلع ربيع الآخر حيث وهبه لحليفه أمير حمص الذي كان قد التحق به، ثم حاصر »زردنا« فعجل الملك بلدوين في المسير نحو الشمال وقاد جيوش طرابلس وأنطاكية والرها لإنقاذها، فتحول المسلمون إلى عزاز التابعة لجوسلين وشددوا هجومهم عليها، وتمكنوا من إحداث ثغرات في قلعتها، إلا أن قوات بلدوين ما لبثت أن أدركتهم هناك حيث دارت في السادس من ربيع الآخر معركة عنيفة، وإذا استند المسلمون إلى تفوقهم العددي حاولوا الاشتباك مع خصومهم وجهاً لوجه، غير أنه كان لهؤلاء من التفوق في السلاح والقوة الضاربة ما لم يطق المسلمون مقاومته فحلّت بهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير. واستطاع بلدوين أن يجمع من الغنائم الوفيرة التي حصل عليها مبلغ ثمانين ألف دينار الذي كان يدين به لافتداء الرهائن، فاستلمه البرسقي، وأعاد الرهائن، كي يتقوى به على عدوِّه ويعيد حشد قواته من جديد، وما لبثت الهدنة أن عقدت بين البرسقي والصليبيين، وقفل عائداً إلى الموصل بعد أن أبقى في حلب حامية عسكرية.
استئناف الصراع لم يكن الاتفاق بين البرسقي وخصومه نهائياً، نظراً لأن الغزاة لم يحترموا ما اتفقوا عليه من قبل من الشروط، ويذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم أن الصليبيين أخذوا يمنعون فلاحي المسلمين من جني ثمارهم ومحاصيلهم وفق ما نصّت عليه شروط الهدنة.
وفي مطلع ربيع عام 520 هـ (1126م) قام بونز أمير طرابلس بمهاجمة حص رفينة الذي كان هدفاً للصليبيين منذ أن استرده منهم أمير دمشق عام 499 هـ، والذي كان يتحكم في المنفذ المؤدي إلى البقيعة من جهة وادي نهر العاصي، ونهض بلدوين ملك بيت المقدس لمساندته، وخرج صاحبه »شمس الخواص« طالباً البرسقي مستصرخاً به، لكن ولده ما لبث أن قام بتسليم الحصن للغزاة بعد حصار دام ثمانية عشر يوماً، وكان الاستيلاء على هذا الحصن ذا أهمية بالغة عند الصليبيين لا لأنه كفل الأمان والسلامة لطرابلس فحسب، بل لأنه أمّن أيضاً طرق الاتصال بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثم توجه الغزاة إلى حمص وهاجموا المناطق المحيطة بها وخربوا مزارعها، ولم يغادروا المنطقة إلا بعد أن أدركتهم القوة التي بعث بها البرسقي بقيادة ابنه مسعود لنجدة صاحب حمص، وخلال ذلك أعاد المصريون بناء أسطولهم الذي أقلع سنة 520 هـ من الاسكندرية وأغار على الساحل الشامي، ولما سمع البرسقي بذلك أعد خطته على أن يقوم أثناء إغارة الأسطول المصري بهجوم من الشمال، فحشد جيشاً كبيراً وتوجه إلى أنطاكية بقصد نجدة صاحب »رفينة« والواقع أن المصريين أدركوا بعد أن حاولوا القيام بغارة على أرباض بيروت، كلَّفتهم خسائر جسيمة، أن المدن الساحلية مشحونة بحاميات قوية، فلم يسعهم إلا العودة، أما البرسقي فقد سلك طريق »منبج« التي كانت مزارعها وقراها قد تعرضت دوماً لغارات جوسلين أمير الرها، فدارت المفاوضات بين البرسقي وجوسلين لعقد هدنة أخرى على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة بين الطرفين وأن يكون القتال بينهما على غير ذلك.
اتجه البرسقي –بعد أن أمن جانب جوسلين- صوب »الأثارب« وحاصرها في جمادى الآخرة 520 هـ وأرسل فرقة من قواته إلى حصن الدير فأذعن لها، وقامت جيوشه بجمع غلال العديد من مزارع العدو وإرسالها إلى حلب، وعلى الرغم من أن قوات البرسقي استولت على السورين الخارجيين للأثارب، إلا أنها لم يتيسر لها الاستيلاء على المدينة لمبادرة ملك بيت المقدس لإنجادها حيث انحاز إليه الأمير جوسلين، ورغبة منهما في تجنّب الاشتباك مع البرسقي أرسلا إليه قائلين: »ترحل عن هذا الموضع ونتفق على ما كنا عليه في العام الخالي ونعيد (رفينة) عليك«.
ولم يشأ البرسقي –من جهته- أن يمضي في الحرب كيلا يتعرض المسلمون لما تعرضوا له من قبل في عزاز، فقرر عقد الصلح مع الصليبيين، غير أن بلدوين لم يلبث –بعد أن جلا البرسقي بقواته عن الأثارب- أن أنكر ما سبق أن عرضه على البرسقي من شروط الصلح وأهمها إعادة (رفينة) إلى المسلمين، بل إنه طالب ببلاد جديدة فلم يقبل البرسقي ذلك وأقام فترة في حلب ترددت الرسل أثناءها بين الطرفين دون أن تسفر عن نتيجة، كما أن الغارات التي نشبت بينهما عقب ذلك لم تأت بطائل، فرجع بلدوين إلى القدس في رجب، وتوجه البرسقي إلى حلب يصحبه طغتكين حاكم دمشق الذي كان قد التحق به قبيل ذلك عند قنسرين، إلا أنه ما لبث أن مرض وأوصى إلى البرسقي قبل أن يغادر حلب متوجهاً إلى دمشق، الأمر الذي يشير إلى مدى ثقته وتقديره للبرسقي الذي لم يأل جهداً في مقاومة الغزاة، وبعد أن أناب البرسقي ابنه عز الدين مسعود في حلب، قفل راجعاً إلى الموصل.
تعبيد الطرق ما من شك في أن هزيمة البرسقي غير المتوقعة في عزاز، هي التي قلبت ميزان القوى في المنطقة ووضعت جداراً صلباً أمام مطامح البرسقي الذي كان يأمل –بعد ضم حلب إلى إمارته- أن يحقق للمسلمين انتصارات حاسمة ضد أعدائهم، وأن يسعى لتهديد إماراتهم في الشمال بعد أن يوجه ضربات قوية لجيوشهم هناك، وهكذا جاءت كارثة عزاز لتنحرف بحركة البرسقي عن هدفها المرسوم، إلا أن قادة الصليبيين لم ينسوا –رغم ذلك- أن البرسقي سيظل يشكل خطراً على وجودهم، إذ أدركوا ما تمنحه إياه سيطرته على حلب وقيادته لقوى المسلمين في الشام، من إمكانية متجددة لإعادة الكرة عليهم، ومن ثم اقتنع كل من الطرفين بمنطق التهادن والمحالفات والسعي لتجنب أي اشتباك قد يجر وراءه صراعاً طويلاً لم تكن للطرفين رغبة جادة في خوضه نظراً لاعتقادهما بعدم جدواه، ولئن كان البرسقي قد أضاع الفرصة إثر هزيمة عزاز، فإنه فتح الطريق ولا ريب –بضمه حلب إلى الموصل- أمام عماد الدين زنكي الذي جاء بعد سنتين لكي يصفي الحساب مع الغزاة.
نهاية الرجل لم يلبث البرسقي، بعد أيام قلائل من دخوله الموصل، أن اغتيل على أيدي الباطنية الذي كانوا قد تولوا حملة اغتيالات واسعة النطاق لكبار الشخصيات الإسلامية، بسبب الخلافات المذهبية، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في القرن السادس الهجري، وكانت الباطنية تشكل –إذاً- مصدر الخطر الوحيد ضد البرسقي، وقد عرف هو ذلك منذ البداية، فكان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم، وكان يحيط بنفسه بعدد كبير من الحرس المسلمين الذين كانوا دائماً على أهبة الاستعداد، كما كان يلبس درعاً من حديد، وقد جهد في الحد من خطر الباطنية عن طريق التصدي لهم واستئصال شأفتهم وتتبعهم في كل مكان، وقد تمكن من قتل عدد منهم. ورغم كل هذه الاحتياطات والاجراءات تمكن الباطنية الذين تمرسوا على الاغتيالات من بغيتهم. ففي التاسع من ذي القعدة سنة 520 هـ توجه البرسقي إلى الجامع العتيق في الموصل لأداء صلاة الجمعة، وقصد المنبر، فما دنا منه وثب عليه ثمانية أشخاص متزيين بزي الزهاد وأثخنوه ضرباً وطعناً، بعد أن تمكن وحراسه من قتل بعضهم، ثم حمل جريحاً ومات في نفس اليوم، وتم قتل جميع من اشترك في الاغتيال فيما عدا واحداً منهم تمكن من الهرب إلى الشام. وكان البرسقي قد رأى في منامه –في الليلة الفائتة- بأن مجموعة من الكلاب السوداء هاجمته، وقصّ رؤياه على أصحابه فأشاروا عليه بعدم الخروج من داره أياماً، ولكنه رفض اقتراحهم وقال: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبداً.. وكان من عادته أن يحضر صلاة الجمعة مع سائر الناس. ويُلقي العماد الأصفهاني ضوءاً على الدوافع المباشرة لاغتيال البرسقي، إذ يشير إلى العداء المستحكم بينه وبين (الدركزيني) الباطني وزير السلطان السلجوقي محمد، الذي عمل جاهداً ليقنع السلطان بعزل خصمه فلم ينجح في مسعاه، فاتفق مع الباطنية على اغتياله. وموقف الدركزيني يقودنا إلى موقف الباطنية العام من زعماء المقاومة الإسلامية، هذا الموقف الذي تميّز بالعداء الجارف والرغبة في الانتقام، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على مجرى الصراع بين المسلمين والغزاة.[1] ومن عجب –يقول المؤرخ ابن الأثير-: أن أمير أنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل الخبر إليه شخصياً! وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته –أي أمير أنطاكية- بمعرفة الأحوال الإسلامية! لكن ألا يلقي هذا النبأ ظلاً من شك حول إمكانية حدوث اتفاق مسبق بين الباطنية والصليبيين لاغتيال المجاهد المسلم، لا سيما وأن قتلته ربما كانوا –كما يذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم- قوماً من أهل حماة القريبة من معاقل الصليبيين؟ كيفما كان الأمر، فإن مقتل البرسقي أصاب المسلمين عامة والموصل خاصة بخسارة فادحة حيث فقدوا باغتياله والياً من نوع ممتاز، فلا غرو أن يحزنوا عليه ويأسفوا لفقده ويستدعوا ابنه عز الدين مسعود ليحل محله. وأغلب الظن أن البرسقي كان الوالي الوحيد للموصل، منذ بدء عهد الولاة عام 489 هـ وحتى تولي عماد الدين زنكي عام 521 هـ، الذي لم يطمح إلى مخالفة السلطان السلجوقي والاستقلال عن سلطته بحكم حبه له وإخلاصه لوحدة الدولة السلجوقية إزاء التفتّت والانقسام. مجلة الأمة – العدد 16- ربيع الآخر 1402 هـ د. عماد الدين خليل