بعده، فاختلفت كلمتهم وتفرقت أهواؤهم مدة من 120 سنة إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت المعروف بتارشتا اللمتوني، فاجتمعوا عليه وقدَّموه على أنفسهم، وكان من أهل الدين والفضل والصلاح والحج والجهاد؛ فأقام أميراً على صنهاجة مدة من 3 أعوام إلى أن استشهد، فولي أمر صنهاجة بعده صهره يحيى بن ابراهيم الكدالي[1]. وسُمُّوا بالملثمين لأنهم لا يتلثمون ولا يكشفون وجوههم أصلا ولا يزيلونه ليلا ولا نهاراً فلا يعرف الشيخ من الشاب.[2] وفي سبب تلثمهم روايتان ذكرهما ابن خلكان: " وسبب ذلك على ما قيل أن حمير كانت تتلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم، وقيل كان سببه أن قوما من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين في زي النساء فإذا أتاهم العدو ظنوهم النساء فيخرجون عليهم ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم فلزموا اللثام تبركا بما حصل لهم من الظفر بالعدو"[3] وهناك قول ثالث يمكن أن يستفاد من قول أبي حامد الكاتب:
قوم لهم شرف العلا من حمير | وإذا انتموا صنهاجة، فهم |
لما حووا احراز كل فضيلة | غلب الحياء عليهم فتلثموا[4] |
وذلك أن سبب تلثمهم هو شدة الحياء الذي اتصف به الملثمون.
"إلا أن المرجح في استخدام اللثام هو ظروف المناخ الصحراوي الجاف في الصيف، والقارص في الشتاء، هو الذي فرض هذا اللثام على القبائل كما أن الرياح العاتية التي تهيل الرمال معها فرضت على سكان الصحراء أن يضيقوا هذا اللثام لحماية عيونهم وأفواههم من سفو الرّمال، وربما استخدم اللثام لأسباب أمنية أو تمويهية تخدم أغراضاً عسكرية، وعلى كل حال فإن اللثام عادة اعتادها القوم وحافظوا عليها حتى أصبحت تتكرر تلقائيا، إلى الحدّ الذي أصبح فيه هذا الاسم يطلق على عموم المرابطين عند الكثير من المؤرخين."
[5]2 - مرحلة الخطاب بقيادة عبد الله بن ياسين الجزولي:
إني لا أستطيع أن أتجاوز دور الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي- صاحب الفكرة الأولى والساعي بكل ما أوتي من قوة لتوحيد صفوف قبائل الملثمين، وتصحيح عقيدتهم وتفقيههم في أمور دينهم ودنياهم- وأتحدث مباشرة عن دعوة عبد الله بن ياسين وخطابه المشرق، فالقارئ يجب عليه أن يعلم من هو عبد الله بن ياسين؟ ومن أين أتى؟ ومع من ؟ وكيف تيسر له القدوم للصحراء ؟ وماهو هدفه ؟..
لذلك فدور الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي لا يمكن تجاهله والحديث مباشرة عن دعوة عبد الله بن ياسين ثم جهاده.
· يحيى بن إبراهيم الجدالي والتقاؤه بالشيخ أبي عمران الفاسي:
ولما توفي أبو عبد الله بن تيفاوت، تولى أمر صنهاجة من بعده يحيى بن إبراهيم الجدالي، وفي سنة 427 هـ استخلف ابنه ابراهيم بن يحيى وارتحل إلى المشرق برسم الحج، فلما قضى حجه وزيارته همَّ بالرجوع إلى بلاده فمر بالقيروان، فلقي بها الشيخ الفقيه أبا عمران الفاسي[6]، فرآه هذا الأخير محبا في الخير فأعجبه حاله. وسأله الشيخ عن فروض دينه فلم يجده يعرف منها شيئا – لافتقارهم إلى من يقرئهم القرآن ويدرس لهم العلم الشرعي- ، إلا أنه حريص على التعلم، صحيح النية والعقيدة.
فطلب يحيى بن إبراهيم من الشيخ أن يبعث معه بعض طلبته ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين لكن تلامذة الشيخ استعصوا دخول أرض الصحراء.
فما كان من الشيخ أبي عمران الفاسي إلا أن أرشد يحيى بن إبراهيم إلى فقيه ببلد نفيس من أرض المصامدة واسمه واجَّاج بن زلو اللمطي، وأعطاه كتابا ليوصله إليه يأمره فيه ببعث أحد من طلبته المتميزين بالعلم والورع وحسن السياسة ليقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام، ويفقههم في دين الله.
· يحيى بن إبراهيم الجدالي رفقة عبد الله بن ياسين الجزولي، وما كان من أمرهما:
فسار يحيى بن إبراهيم بكتاب الشيخ أبي عمران حتى وصل إلى الفقيه واجاج بمدينة نفيس، فسلم عليه ودفع إليه الكتاب في رجب 430هـ.
فما كان من الفقيه واجاج إلا أن ندب طلبته لما أمر به الشيخ أبو عمران.
فانتدب لذلك رجلٌ منهم يقال له عبد الله بن ياسين الجزولي، وكان من حذاق الطلبة، ومن أهل الفضل والدين والورع والسياسة، فخرج مع يحيى بن إبراهيم إلى الصحراء[7]، لتبدأ دعوته من أجل تأسيس دعائم الدولة المرابطية والشروع في الممارسة والتطبيق.
[1] روض القرطاس ج 2 ص 6- 8 بتصرف يسير.
[2] أنظر (وفيات الأعيان ج: 7 ، ص: 129) و(كتاب الاستقصا ج:2 ، ص: 159 ) و (الكامل ج: 8 ص: 330).
[3] وفيات الأعيان ج: 7 ص: 129
وقد نقل صاحب الاستقصا عن ابن خلكان في ج:2 ص: 159 و 160 هاتان الروايتان، وكذا ابن الأثير في ج:2 ص 160 ما يشبه الرواية الثانية. ويمكنك مراجعة " الكامل " ج: 8 ص: 330 فمنه نقل صاحب الاستقصا.
[4] كتاب الاستقصا ج: 2 ص: 161
[5] " انتصارات يوسف بن تاشفين " ، ص: 13 [6] الإمام الكبير العلامة عالم القيروان أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج البربري الغفجومي الزناتي الفاسي المالكي أحد الأعلام تفقه بأبي الحسن القابسي وهو أكبر تلامذته ودخل إلى الأندلس فتفقه بأبي محمد الأصيلي وسمع من عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر وأحمد بن القاسم التاهرتي.قال أبو عمر بن عبد البر: كان صاحبي عندهم وأنا دللته عليهم. أخذ القراءات ببغداد عن أبي الحسن الحمامي وغيره وسمع من أبي الفتح بن أبي الفوارس وأخذ علم العقليات عن القاضي أبي بكر بن الباقلاني في سنة تسع وتسعين وسنة أربع مئة.
قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أعلم الناس وأحفظهم، جمع حفظ الفقه إلى الحديث ومعرفة معانيه وكان يقرأ القراءات ويجودها ويعرف الرجال والجرح والتعديل، أخذ عنه الناس من أقطار المغرب، لم ألق أحدا أوسع علما منه ولا أكثر رواية. قال ابن بشكوال: أقرأ الناس بالقيروان ثم ترك ذلك ودرس الفقه وروى الحديث. قال ابن عبد البر: ولدت مع أبي عمران في سنة ثمان وستين وثلاث مئة.قال أبو عمرو الداني: توفي في ثالث عشر رمضان سنة ثلاثين وأربع مئة. أنظر ( سير أعلام النبلاء ج: 17 ص: 545- 546 ) و (شذرات الذهب ج:2 ص: 247 ).
[7] أنظر ( الاستقصا ج: 2 ص: 164 )، وانظر ( الكامل ج: 8 ص: 328 ).وانظر ( روض القرطاس ج:2 ص: ص: 8 – 11 ).
وارتأيت تقسيم مرحلة الخطاب أو الدعوة – بقيادة عبد الله بن ياسين – إلى مرحلتين:
v الخطاب السلبي[1] ( ما قبل الرباط والاعتزال). v الخطاب الإيجابي[2] ( الرباط وما بعده ). أ - الخطاب السلبي:
وصل يحيى بن إبراهيم إلى بلاده وبرفقته الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي " وسألوه عن الفقيه فقال: هذا حامل سنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم] قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام فرحبوا بهما وأنزلوهما"[3]. فتلقاه قبائل كدالة ولمتونة وفرحوا بمقدمهما، وتيمنوا بالفقيه، وبالغوا في إكرامه وبره[4]،فانقادوا له انقياداً عظيما ووالوه في ابتداء الأمر تكريماً.[5] ولما أنزله معه، وجد عند يحيى بن إبراهيم تسع نسوة، فسأله ابن ياسين عنهن،فقال: هنَّ زوجاتي؛ فقال له الفقيه: هذا شيء لايجوز في دين الإسلام، وإنما يجوز لك أربع، ففارق خمساً؛ فأجابه بالسمع والطاعة وفارقهن، ثم قال له: إن جميع الرؤساء من كدالة ولمتونة مثل حالي؛ فأنذرهم وعرفهم حكم الله، فخرج الفقيه عبد الله بن ياسين ويحيى معه وجميع الرؤساء فقال لهم: بلغني أنكم تتزوجون بما شئتم من النساء حتى إن الشخص منكم يجمع بين العشرة وليس هذا من السنة؛ وإنما السنة والإسلام أن يجمع الرجل بين أربع نسوة حرائر؛ وله سعة فيما شاء من ملك اليمين؛ ثم جعل يعلمهم الدين ويبين لهم شرائع السنة[6]،" وجعل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكبحهم عن كثير من مألوفاتهم الفاسدة، وشدَّد في ذلك. فاطَّرحوه واستعصبوا علمه، وتركوا الأخذ عنه لما جشمهم من مشاق التكليف"[7] " فقالوا أما ما ذكرت من الصلاة والزكاة فهو قريب وأما قولك من قتل يُقتل ومن سرق يُقطع ومن زنا يُجلد أو يُرجم فأمر لا نلتزمه اذهب إلى غيرنا"[8]، فعزلوه من الرأي والمشورة، وقطعوا منه مالهم، وانتهبوا داره وهدموها، وأخذوا ما كان فيها، وخرج عبد الله بن ياسين منهم خائفاً منهم[9] . قد تبين لنا كيف استقبلت القبائل قدوم عبد الله بن ياسين فبدأ دعوته المباركة لكن سرعان ما أجهضوها، لأنهم لا يستطيعون التخلي أبداً عن قتل النفس فدل على أن القوم يعشقون سفك الدماء بالباطل فتلك عادتهم فأين حقوق النفس عند هؤلاء؟، كما أنهم لم يتقبلوا قطع يد السارق فدل على أن السرقة كانت ديدنهم فأين حقوق التملك عند هؤلاء؟ ، وكذلك لم يتقبلوا جلد الزاني فدل على أنهم كانوا يتخبطون في الشهوات بغير حق وهتك الأعراض، فأين حقوق المرأة عند هؤلاء ؟، وأي حياة كان يعيشها هؤلاء الهمجيون الرافضون لشريعة خالق كل شيء؟!.
وبما أن الجهل كان منتشراً في القبائل والمرء عدو لما يجهل، فلا بد أن يلقى عبد الله بن ياسين، معارضة للانعتاق من النظام والالتزام بالواجبات الشرعية، التي يؤكد عليها وهذا ليس بالغريب فقد عودي الرسل وكذِّبوا وأُوذوا وضُيِّق على الدُّعاة المخلصين على مرِّ العصور، وَشُرِّدوا وسُجِنوا وَقُتِلوا وهذه سنة الله تعالى في خلقه
[1] أقصد بالخطاب السلبي ما كانت نتائجه سلبية دون جدوى وكأنك تخاطب عقولا كالحجارة أو أشد قسوة لا تتقبل الخير بل تنفر منه ولا تستسيغه ( عدم الاستجابة ).
[2] أقصد بالخطاب الإيجابي ما كانت نتائجه وثماره طيبة حيث يتقبل الناس الدعوة إلى الخير ونبذ الشر ومحاربته ( الاستجابة ).
[4] الاستقصا ج: 2 ص: 165.
[5] البيان المغرب ج: 4 ص: 8
[6] روض القرطاس ج2 ص: 11- 12 .
ولا شك أن أول من تزعم حركة هذه المعارضة؛ أسياد هذه القبائل وأعلاها منصباً، لأن هؤلاء يستغلون مناصبهم لاستعباد الناس وانتهاك حرماتهم وسرقة أموالهم، فكيف يتقبلون ما يدعو إليه الفقيه عبد الله بن ياسين من مساواة وعدل بين الغني والفقير.
ب - الخطاب الإيجابي:
بعدما أعرضوا عن دعوة عبد الله بن ياسين، واتبعوا أهواءهم عزم على الرحيل عنهم إلى بلاد السودان الذين دخلوا في الإسلام يومئذٍ، فلم يتركه يحيى بن إبراهيم لذلك، وقال له: " إنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي. وما عليَّ فيمن ضلَّ من قومي ".
ثم قال يحيى بن إبراهيم لعبد الله بن ياسين: " هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد الآخرة ؟ " قال: "ما هو ؟ " قال: " إن ههنا جزيرة في البحر". قال ابن خلدون: " هو بحر النيل، يحيط بها من جهاتها. يكون ضحضاحا في المصيف يخاض بالأقدام، وغمرا في الشتاء يعبر بالزوارق".
قال يحيى بن إبراهيم: " وفيها الحلال المحض من شجر البرية وصيد البر والبحر، ندخل فيها ونقتات من حلالها، ونعبد الله تعالى حتى نموت". فقال عبد الله بن ياسين: " إن هذا الرأي حسن! فهلم بنا فلندخلها، على اسم الله!" فدخلها، ودخل معهما سبعة نفر من كدالة، وابتنى عبد الله رابطة هناك، وأقام في أصحابه يعبدون الله تعالى مدة في ثلاثة أشهر، فتسامع الناس بهم، وأنهم اعتزلوا بدينهم يطلبون الجنة والنجاة من النار. فكثر الواردون عليهم، والتوابون لديهم، فأخذ عبد الله بن ياسين يقرئهم القرآن، ويستميلهم إلى الخير، ويرغبهم في ثواب الله، ويحذرهم ألم عقابه حتى تمكن حبه من قلوبهم. فلم تمر عليه إلا مدة يسيرة حتى اجتمع له من التلامذة نحو ألف رجل."[1] وتستمر دعوة عبد الله بن ياسين الإيجابية خصوصاً لما اجتمع إليه من أشراف صنهاجة نحو ألف رجل، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته.[2] وإن من حكمة عبد الله بن ياسين أنه لم يكن متهوراً يلقي بنفسه إلى التهلكة بل انتظر حتى تفقه القوم ورسخ فيهم الدين "فقام فيهم خطيبا فوعظهم وشوقهم إلى الجنة، وخوفهم من النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك من ثواب الله تعالى وعظيم جزائه"[3] وهنا أشير إلى أنه من الضروري البدء بالإعداد الروحي والعقائدي، وعدم التسرع وإنْ توفرت المادة، لأن هذه الأخيرة لا تغني شيئا أمام فراغ روحي وعقائدي، فتأمل كلامي فسوف يتحقق فيما سيأتي بيانه: " ثم ندبهم إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة وقال لهم: "معشر المرابطين، إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل! ولن يغلب ألف من قلة! وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى، وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، بأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في الله حق جهاده!" فقالوا له: " أيها الشيخ المبارك، مُرنا بما شئت تجدنا سامعين لك ومطيعين! ولو أمرتنا بقتل آباءنا لفعلنا![4] " فقال لهم: اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخوفوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحق وأقلعوا عما هم عليه فخلوا سبيلهم؛ وإن أبوا من ذلك، وتمادوا في غيهم، ولجوا في طغيانهم، استعنا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا؛ وهو خير الحاكمين."[5] هنا تبدأ الدعوة الحقيقية الجماعية ( دعوة الألف رجل ) بعد أن كانت فردية[6]، " فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته فوعظهم، وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عما هم بسبيله، فلم يرفعوا بذلك رأسا فخرج إليهم عبد الله بن ياسين بنفسه، وجمع أشياخ قبائلهم ووجوهها، وقرأ عليهم حجة الله ودعاهم إلى التوبة، ورغبهم في الجنة، وخوفهم من النار، وأقام ينذرهم سبعة أيام، وهم في ذلك كله لا يلتفتون إلى قوله! ولا يزدادون إلا فسادا! فلما يئس منهم قال لأصحابه: " قد أبلغنا في الحجة، وأنذرنا وأعذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله". "[7] يا له من منهج معتدل وسطيّ يبرهن أن عبد الله بن ياسين لم يكن يعشق سفك الدماء بل "كان يفضل جانب الدعوة والإصلاح لعودة المسلمين إلى الشرع الإسلامي في حياتهم، لكن إذا تمادوا في غَيِّهم ولَجُّوا في طغيانهم، حكَّم السيف حتى يسود الحق ويمحق الباطل"[8]
[2] روض القرطاس ج 2 ص: 13
[3] الاستقصا ج:2 ، ص: 167
[4] هنا ثمار الدعوة الروحية والعقائدية، فقد آن لعبد الله بن ياسين أن يؤمر فيطاع ويقول فيسمع له، فانظروا إلى أي حدّ تمكنت دعوة الحق والنور والعدل في نفوس هذه الكوكبة، فإذا حصل الولاء التام لله ولرسوله حصلت الولاية والنصرة من الله " بل الله مولاكم وهو خير الناصرين" ( آل عمران: 150 ).
[5] روض القرطاس ج:2 ص: 14
[6] نتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ الدعوة لوحده ولاقى من الصعاب ما لا يعد ولا يحصى، لكن وبفضل من الله عز وجل صارت الدعوة جماعية وتأسست الدولة الإسلامية بالمدينة ثم شرع الجهاد – بعد الدعوة - "وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (التوبة 40). فتأمل الحدثين وتقاربهما.
[8] " انتصارات يوسف بن تاشفين " ص :22
3 - عبد الله بن ياسين و حمايته الخطاب و الدعوة بالسيف:
بعد المبادرة الدعوية الشاملة التي قام بها ابن ياسين وإخوانه المرابطون، لم يعد هناك مجال للحلول الوسط، بل أصبحنا نلاحظ موقفين متناقضين: موقف جاهلي يصر على حالة التشردم والتشتت الاجتماعي والضياع والانحطاط الخلقي، وموقف آخر يتوقد حماساً لحماية الأمة ومبادئها والعودة بها إلى طريق الحق، بعد توحيد الصفوف وتحكيم الشرع الإسلامي في شؤون الحياة، وعلى هذا كان لابد من الصراع بين هذين الموقفين، وإن كان يبدوا لأول وهلة أن أصحاب الموقف الباطل أطول باعاً وأكثر جمعاً؛ إلا أن أصحاب الحق أثبت قدماً وأشدّ إصراراً[1] ، " فبدأ أولا بقبيلة كدالة فغزاهم في ثلاثة آلاف رجل من المرابطين؛ فانهزموا بين يديه، فقتل منهم خلقا كثيرا؛ وأسلم الباقون إسلاما جديدا، وحسنت حالهم؛ وأدوا ما يلزمهم من جميع ما فرض الله عليهم، وذلك في شهر صفر سنة 434 هـ؛ ثم سار إلى قبيلة لمتونة فنزل عليها، وقاتلهم حتى ظهر عليهم، وأذعنوا إلى الطاعة وتابوا، وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة، ثم سار إلى قبائل مسوفة فغزاهم حتى أذعنوا وبايعوه وأقروا بالسمع والطاعة. فلما رأى ذلك قبائل صنهاجة ولمتونة سارعوا إلى التوبة وإلى المبايعة، وأقروا له بالسمع والطاعة..."[2] . وبعد أن نظم ابن ياسين جانب الدعوة وجانب العبادة نلاحظ أنه سرعان ما التفت إلى الجانب الاقتصادي حيث أمرهم بالصلاة والزكاة وأداء العشر، واتخذ لذلك بيت مال يجمع فيه ما يرفع إليه من ذلك.
كما ركز على الجانب العسكري حيث أخذ في اشتراء السلاح وإركاب الجيوش التي ألقي على كاهلها حماية خطاب ودعوة المرابطين وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد التي سيطروا عليها.
وكذلك لم يتجاهل – عبد الله بن ياسين – الجانب العلمي حيث " بعث بمال دَثْر مما اجتمع لديه من الزكوات والأعشار و الأخماس إلى طلبة العلم ببلاد المصامدة "[3]. وتلك عين الحكمة، لأن الوعي شيء ضروري في تقدم الأمم وازدهارها، فهذا درس عظيم لمن ينفق الأموال في غير حقها.
وليُعلم أن المجتمع الذي يغيب فيه العلم ولا يمُوّل ولا تُعطى له قيمة ، هو مجتمع جاهلي منحط، يعتبر من دول العالم الثالث المتخلفة لذلك تجدها تهتم كثيرا بالفنون الجميلة وتنسى العلوم الجليلة، التي ساد بها سلفنا فاحتلوا بفضلها - بعد الله عز وجل – أعلى وأسمى مكانة في تاريخ البشرية، والكل يعلم أن الحرب اليوم حرب ثقافية علمية محضة (العولمة)، فإذا ناديت بما نادى به عدوك انهزمت، فصرت خاتما في أصبعه يحركك كيف يشاء، لأنك خنت الإرث العظيم الذي ورثته عن آباءك وأجدادك الذين سادوا به وتقدموا ، فإلى مزبلة التاريخ كسائر المتخاذلين.
يقول الدكتور حامد خليفة منوها بصنيع هذا البطل: " إن هذه الالتفاتة نحو طلبة العلم لهي إحدى روائع ابن ياسين، حيث لم يشغله عن هذا الجانب مسائل الإمارة الفتية، ولا المشاركة في الأعمال العسكرية وقيادة الجيوش وإعدادها، ولهذا كان لها أطيب الأثر في النفوس، ولاقت الارتياح التام في الأوساط العلمية المتمثلة بالربط والمدارس الفقهية آنذاك"[4] وكل ذلك ساهم إعلاميا بالتعريف بقائد المرابطين ودعوته، " فاشتهر أمره في جميع بلاد الصحراء وما والاها من بلاد السودان، وبلاد القبلة، وبلاد المصامدة، وسائر أقطار المغرب؛ وأنه قام رجل بكدالة يدعوا إلى الله تعالى وإلى الصراط المستقيم، ويحكم بما أنزل الله، وأنه متواضع زاهد في الدنيا، وطار له ذكر في العالم، وتمكن ناموسه من القلوب، وأحبته الناس"[5]، مما فتح لهم أبواب التوسع ونشر الدعوة المرابطية في الاتجاهات المحيطة بهم كافة.[6] هذه هي دعوة عبد الله بن ياسين التي بدأها وحده حتى أصبح الآلاف يحملون نفس الشعار ونفس الخطاب، فدل ذلك على نجاحها.
وفي ما سيأتي مرحلة الممارسة والتطبيق وتتجلى في مواقف هؤلاء المرابطين في دفع بغي السلاطين وظلمهم واستبدادهم لرعيتهم.
[1] " انتصارات يوسف بن تاشفين " ص: 23
[2] روض القرطاس ج:2 ص: 14 – 15 .
[4] انتصارات يوسف ابن تاشفين ص 24 - 25
[6] انتصارات يوسف بن تاشفين ص: 25