المعتمد بن عباد Admin
الموقع : اندلسى
| موضوع: حواضر الأندلس و سكانها من خلال "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" ـــ د.عبد القادر خليفي الأحد ديسمبر 12, 2010 6:25 pm | |
|
الكاتب والكتاب:
أبو العباس أحمد بن محمد المقَّري التلمساني (986هـ ـ 1041هـ) (1578 ـ 1631م)، هو صاحب كتاب "نفح الطيب". وقد لد بتلمسان، ودرس على علماء مدينته، ثم رحل إلى مدينة فاس سنة (1010هـ/ 1600م) ليواصل دراسته هناك مدة من الزمن. رحل بعد ذلك إلى مراكش ليلتقي السلطان أحمد المنصور الذهبي، اشهر سلاطين السعديين وقمة مجدهم. ثم عاد إلى فاس في العام التالي، وبقي فيها خمسة عشر عاماً، حيث تولى الإمامة والخطابة والفتوى والتدريس في جامع القيروان. وكان يزور بلده تلمسان من حين لآخر.
وفي عام (1027هـ/ 1618م) اتجه إلى المشرق، فمر بطنجة ووصل إلى الإسكندرية بحراً، ومنها اتجه إلى الحجاز فأدى فريضة الحج، وعاد إلى القاهرة ثانية مروراً بفلسطين. وزار بعد ذلك دمشق، ودرّس بالجامع الأموي مدة قصيرة.
وهناك طلب منه علماء دمشق أن يؤلف لهم كتاباً حول سيرة لسان الدين بن الخطيب، فاستجاب لطلبهم وألف الكتاب وسماه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب"، وانتهى من تأليفه في ذي الحجة من سنة (1039هـ/ 1630م). لم يتمكن أبو العباس من حمل الكتاب إليهم، لأنه توفي بمصر في جمادى الثانية سنة (1041هـ/ 1632م). ودفن بجوار الأزهر الشريف، وترك حوالي اثني عشر مؤلفاً في النثر والشعر.
أما كتابه "نفح الطيب" فيعد موسوعة تاريخية ومَعْلمة أدبية نادرة، لا يمكن الاستغناء عنها عند دراسة التاريخ والأدب والجغرافيا الخاصة ببلاد الأندلس.
أهمية الجغرافيا في كتاب "نفح الطيب":
أعطى المقري أهمية كبيرة للجغرافيا في كتابه "نفح الطيب"، فتحدث عن المدن الأندلسية وسكانها، وذلك بعد أن حدد مفهوم كلمة (أندلس) اعتماداً على أقوال بعض المؤرخين، ثم قام بوصف مناخ تلك البلاد، وبين مساحتها وحدد أراضيها وأول من سكنها.
والواقع أن المدينة هي المكان المستقر الذي يقع فيه الحادث، وفكرة المكان هي أبسط ما توحي به الجغرافيا، لذلك فإن الحديث عن المدينة أو المكان هو توطئة وتكملة للحادث.
وتاريخ الإقليم المحدد هو تاريخٌ مرتبط بعضه ببعض في وحدة متكاملة، أي أن الحادث مرتبط أشد الارتباط بمحيطه.
أما السكان فهم المتسببون في الحادث، المسيرون له، الفاعلون فيه. ودراسة المكان وسكانه تتمثل في الوصف والتعليل، وربط كل ظاهرة بشرية بالعلاقات التي تربطها بالوسط المحيط بالإنسان.
لقد بدأ المقري حديثه عن الأندلس بقوله: "محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غبارُه وأنّى تُجارى، وهي الحائزة قصب السبق في أقطار الغرب والشرق"([1]).
وهكذا فإن هذه العبارة تعتبر تلخيصاً لما سيقوله المقري عن بلاد الأندلس عامة، فهو حديث إطراء ومدح، يُختتم أحياناً بالدعاء لعودتها إلى رحاب الإسلام.
أ ـ وصف المدن:
يتطرق المقري إلى عدة مواضيع مرتبطة بالمدن، كذكر أبعادها، والمسافات التي تفصل بعضها عن بعض، كما يتعرض لمحيطها الطبيعي من جبال وأنهار ومناخ، ويذكر أعمال المدن أو القرى والمداشر التابعة لهذه المدينة أو تلك. ويولي أهمية كبيرة لمختلف عناصر الحسن الميزة لكل مدينة، ويتعرض أخيراً لخراب بعض المدن واندثار أثرها.
وفيما يخص الأبعاد يورد المقري قول أحدهم فيما يلي: طول الأندلس ثلاثون يوماً، وعرضها تسعة أيام([2]). ويقول في مكان آخر ـ نقلاً عن ابن بطوطة ـ: وخارجها ـ أي غرناطة ـ لا نظير له، وهو مسيرة أربعين ميلاً([3]).
وعن قرطاجنة يقول على لسان صاحب مناهج الفكر في الحيل لابن مرزوق: "لها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان معمور بالقرى([4]).
وعن بلدة أكشونية، التي هي من أعمال شِلب، يذكر أن بينها وبين قرطبة مسيرة سبعة أيام([5]). وعن محيط مدينة سرقسطة يقول: "والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال، ولها أعمال كثيرة: مدن وحصون وقرى، مسافة أربعين ميلاً([6]).
فالمسافات عند المقري تحدد بعدد الأيام حيناً، وبالأميال حيناً آخر، وذلك هو المتعارف عليه في ذلك العهد.
أما عن المظاهر الطبيعية المحيطة بالمدن كالأنهار والجبال فيأتي بها المقري من حين لآخر. من ذلك ذكره للنهر المسمى "شنيل" الذي يجتاز غرناطة، والذي عليه قناطر يُجتاز عليها. وعن موقع إشبيلية يقول إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة وعليه جسر مربوط بالسفن([7]).
ومن الجبال يذكر جبل شلير المغطى بالثلج، والواقع إلى الشرق من غرناطة، وأن هذا الثلج لا يزول عنه شتاء ولا صيفاً، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة وأجناس الأفاويه الرفيعة([8]). وعن محيط قرطبة الطبيعي يورد المقري قولاً لأحد رؤساء الجند جواباً عن سؤال طرحه عليه أحد السلاطين ـ يعقوب المنصور ـ وهو: "جوفها شِمام، وغربها فمام، وقبلتها مُدام، والجنة هي والسلام".
والشمام هي جبال الورد، والفمام هي الأراضي المحروثة في الأرياف، والمُدام يعني به النهر المعروف بـ"الوادي الكبير". وهكذا فإن الطبيعية هي التي تعطي للمدينة ميزة معينة، فهي السيدة والمسيطرة في هذه الحالة، إذ العوامل الطبيعية تتحكم حتى في التاريخ، كالمناخ والتضاريس والمياه. وهي إما مساعدة للتقدم والرقي أو معرقلة له([9]).
كما أنها قد تضفي على المكان جلالاً وهيبة من الحسن والجمال أو ظلالاً من الحزن والقبح. وقد أبرز المقري جمال المدن، وأظهر عناصر الحسن فيها من خلال كثير من المواقف اعتماداً على أقوال عدة مؤرخين كتبوا عن الأندلس ومدنها.
فعن غرناطة يقول: هي من أحسن بلاد الأندلس ومن أشهرها، وتسمى دمشق الأندلس، لأنها شبيهة بها([10]).
وعن مدينة بلنسية يورد قولاً لابن سعيد، وهو أن كورَتَها تنبت الزعفران، وأنها تعرف بمدينة التراب، وبها كمثرى يسمّى الأرزة في قدر حبة العنب، يجمع حلاوة المطعم وذكاء الرائحة، إذا دخل داراً عُرف بريحه. ويقال إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس، وإن بها مسارح ومنارة، وأبدع ما فيها الرُّصافة ومنية أبي عامر..([11])
وعن مدينة سرقسطة يذكر أنه "ليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها ولا أطيب طعماً ولا أكبر جرماً". ويُظهر كيف تحيط بها البساتين بأشجارها الباسقة، مما يجعلها تضاهي مدن العراق، وبالجملة فأمرها عظيم.
وعن أشبيلية يقول: إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها، تشتهر بالأدب واللهو والطرب، وتقع على ضفة النهر الكبير، وإنها عظيمة الشأن طيبة المكان. لها البر المديد والبحر الساكن والوادي العظيم، ولو لم يكن لها من الشرف إلا الشرف (أي الجبل المطل عليها)، المشهور بالزيتون الكثير، لكفى.
ويستشهد برأي ابن مفلح عن المدينة نفسها، والذي يقول: إنها عروس بلاد الأندلس لأن تاجها الشرف، وفي عنقها سمط النهر الأعظم الذي لا يضاهيه في الحسن أي نهر على وجه الأرض.
كما يذكر المقري أعمال المدن وما يدخل تحت حكمها ويضاف إليها من قرى "ومَداشِر"، ويسميها أحياناً بالكوَر([12])، وذلك استكمالاً لما قيل عن المدن ـ مراكز الإدارة والسيادة ـ فيذكر مثلاً من أعمال غرناطة بلدة لوشة وباغُه ووادي آش، ويذكر حِصن جليانة وهو من أعمال وادي آش الكثير التفاح.
أما عن توابع إشبيلية فيذكر أن متفرجاتها ومنتزهاتها كثيرة، منها مدينة طريانة وكذلك تَيْطل.
ومن قرى وأعمال بلنسية المَنصف وبَطَرنة ومنيطة وأندة. ويعدد ما اشتهرت به كل منها من مُعلم أو عالم أو قول مأثور..
وإذا كان المقري قد أفاض في ذكر محاسن المدن الأندلسية ومميزاتها، فإنه ذكر أيضاً حالتها بعد اندثارها.
فعن خراب الزهراء وصيرورتها مأوى الطير والوحش يذكر شعراً لأحدهم، وهو:<TABLE class=MsoNormalTable dir=rtl style="WIDTH: 100%; BORDER-COLLAPSE: collapse" cellSpacing=0 cellPadding=0 width="100%" border=0> <TR> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 46.02%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="46%"> ديار كأكناف الملاعب تلمع
</TD> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 8.32%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="8%"> </TD> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 45.66%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="45%"> وما إن بها من ساكن وهي بَلقع
</TD></TR> <TR> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 46.02%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="46%"> ينوح عليها الطير من كل جانب
</TD> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 8.32%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="8%"> </TD> <td style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; WIDTH: 45.66%; PADDING-TOP: 0cm" vAlign=top width="45%"> فيصمت أحياناً وحيناً يُرجِّع([13])
</TD></TR></TABLE>
ويتحدث عن سقوط قرطبة واندثارها، ويذكر ما أصابها من خراب، على إثر فتنة سنة 400هـ الموافقة لسنة 1009 ـ 1010م، بين البربر بقيادة سليمان بن الناصر من جهة، والخليفة المهدي محمد بن عبد الجبار الذي اعتمد على العامة من أهل قرطبة من جهة ثانية([14]).
ويذكر سقوطها بيد الأسبان في الثاني من شهر يناير سنة 1492م على إثر حصار طويل، ويعتبر المقري ذلك الطامة الكبرى.
وعن الزاهرة يذكر أن المهدي ـ محمد بن هشام بن عبد الجبار ـ والعامة، قاموا على عبد الرحمن الملقب بشنغول، مما أدى إلى انقراض دولة بني آل عامر، وهدم الزاهرة ونهبها. ومن العجائب التي يذكرها عن سرقسطة أن المدينة لا يدخلها ثعبان من نفسه، وإذا أدخله أحد إليها لم يتحرك([15]). وأنه ما دخلتها حية أو عقرب إلا ماتت. وأن الطعام لا يعفن فيها ولا يتسوس الخشب فيها ولا ثياب الصوف أو الحرير أو الكتان([16]).
ومن الغرائب التي يذكرها ما يسميها بـ: "بيلتا طليطلة" وهما نافورتان، صنعهما عبد الرحمن([17]) عندما سمع بخبر الطّلسم الموجود بأرين ببلاد الهند، والذي يدور بأصبعه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. لذلك صنع هاتين البيلتين خارج طليطلة "في بيت مجوف في جوف النهر الأعظم مع زيادة القمر ونقصانه، وذلك أن أول إنهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء، فإذا أصبح كان فيها (رُبع) سبعهما من الماء، فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع، ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل من الشهر سبعة أيام وسبع ليال، فيكون فيهما نصفهما. ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع اليوم والليلة حتى يكمل إملاؤها بكمال القمر كل يوم وليلة نصف سبع (حتى يتم القمر واحداً وعشرين يوماً فينقص منهما نصفهما، ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة نصف سبع)، فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء"([18]).
ونختم حديث المقري عن المدن بقول أحد المؤرخين حسبما جاء في كتاب نفح الطيب وهو أن "طول الأندلس ثلاثون يوماً وعرضها ستة أيام، ويشقها أربعون نهراً كباراً، وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلاثمائة من المتوسطة. وفيها الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة، حتى قيل: إن عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية. وليس في معمور الأرض صُقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعاً من يومه إلا الأندلس"([19]).
لقد ازدهرت المدينة الأندلسية وبخاصة منذ تولي عبد الرحمن الداخل الحكم في قرطبة، والذي نُعتت فترة حكمه بالعصر الذهبي للأندلس الإسلامية. كما اهتم بالعمران من بعده أربعة حكام تعاقبوا بعده، فتابعوا إتمام العمل الذي قام به عبد الرحمن الداخل منذ عام 785م.
وتشهد الآثار المتبقية إلى اليوم على روعة المدينة الإسلامية في الأندلس، وبخاصة العناصر الزخرفية المنحوتة في مساجدها وقصورها، كمسجد قرطبة وقصر الحمراء والزهراء وغيرها. مما خلق فناً عربياً أندلسياً "حاملاً لشخصية مستقلة لا علاقة لها بالفنون التي كانت قائمة في عهد الفندال أو الفيزيكوت. على الرغم من وجود عدد كبير من السوريين الذين كانوا قد استوطنوا، وكان لهم الفضل في إنشاء فن العمارة الرومي أو الرومانسك"([20]).
إن "دراسة النتاج المعماري عبر الزمن لابد أن يهتم بتشخيص العوامل التي أثرت في كل فترة زمنية من أجل استنباط قواعد فكرية وشاملة لنظرية التصميم العمراني"([21]).
وتعتبر فترة الحكم الإسلامي في الأندلس والتي تجاوزت الثمانية قرون، جديرة بكل دراسة متأنية وعميقة تتوخى الوصول إلى تفسير للفضاء المعماري، ووضع القواعد التصميمية له.
ب ـ وصف السكان:
يمكن حصر المواضيع التي ركز عليها المقري في تناوله لسكان الأندلس في حبهم للعلم والأدب وفي بعض سلوكاتهم وخصوصياتهم الاجتماعية.
ففيما يتعلق بالعلم والأدب قد بلغوا شأواً بعيداً في مجال العلوم والآداب. فقصد الطلبة بلادهم من كل حدب وصوب، يستلهمون قبسات من رحيق العلم اليانع وشذاه العطر.
فيذكر أن أهل الأندلس هم من أحرص الناس على التميز في فنون العلوم، وأن الجاهل منهم "الذي لم يوفقه الله للعلم، يَجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً، عالة على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح. والعالم عندهم معظّم من الخاصة والعامة، يشار إليه ويحال عليه، وينبُه قدره وذكرُه عند الناس، ويكرَم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك"([22]).
وأن سمة العلم والملك متوارثة فيهم، وأنهم أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، حتى إن الواحد منهم يملك خزانة كتب لا يفقه محتواها، لا لشيء إلا ليقال إن في بيت فلان كتباً وأنهم يتميزون بعزة أنساب ورقة آداب، وأنهم أشدّ اشتغالاً بفنون العلوم وافتتاناً في المنثور والمنظوم([23])، ويورد المقري رسالة الشقندي ـ نقلاً عن أبن سعيد ـ في ذكر بعض علماء الأندلس، والفنون التي برعوا فيها، وذكر أبطال حروبهم. والرسالة موجهة إلى كل من فضّل بلاد العدوة على بلاد الأندلس.
إنها سِمات البلد المتطور المتحضر وخصوصيات أهله، فالعلم هو مقياس الرفعة، والجهل هو علامة الدنو والانحطاط. إن قوماً هذا دأبهم وهذه قناعتهم لجديرون بكل إكبار وتقدير. وعن مكانة الدين لديهم ومدى أدائهم لفروضه، من قلب العامة والخاصة، يورد المقري فقرة في هذا المجال، يؤكد فيها أن أداء قواعد الدين لديهم تختلف بحسب الظروف والحكام، "ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إنْ تهاون فيه أصحاب السلاطين"([24]). وأن أهل الأندلس من العامة لا يعبؤون بسلطان لا ينهى عن المنكرات، فقد يدخلون عليه قصره، ويُخرجونه من بلدهم دون خوف أو وجل، "وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكل يوم"([25]).
وأما عن حياتهم الاجتماعية فهي في مقام عال، لهم ولع بإظهار الرفاهية وتخلق بالآداب، وهم مولعون بالترف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء. وإن المال عندهم موفور، ويقال عن أهل المرية إنهم أكثر مالاً وأعظم متاجر وذخائر في كل بلاد الأندلس. وقد كان ملوك الأندلس أسخياء على الإنفاق في العمران وغيره، من ذلك أن الملك الناصر كان ينفق على مدينة الزهراء ثلث ميزانية الدولة.
ويذكر المقري أن أهل الأندلس هم أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم. بل قد يكون فيهم من ليس له قوت يومه، ولكنه يشتري الصابون ليغسل ثيابه حتى يظهر للغير في أحسن حالة، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.
وهم أهل تدبير واحتياط، لا يبذرون ولا يبسطون أيديهم كل البسط، بل يحافظون على ما بأيديهم خوف الفاقة، وحتى لا يتعرضوا للشماتة من قبل غيرهم.
ويذكر المقري أيضاً أن أهل الأندلس عرب في أنسابهم، يتصفون بالعزة والأنفة وطيب النفس وعلو الهمة وإباء الضيم، والنزاهة عن إتيان الدنية إلى جانب فصاحة اللسان. ويشير المقّري من جهة أخرى إلى بعض خصوصيات أهل غرناطة كشدة الفضول، وقيامهم على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضى بأمورهم.
وقد عاب محمد بن حوقل البغدادي (سنة 400هـ) على أهل الأندلس ما رآه نابياً فيهم، فوصفهم بصغر الأحلام وضعة النفوس، ونقص في العقول، وبُعد عن البأس والشجاعة والفروسية. وقد رد عليه ابن سعيد ـ مما رآه ظلماً وتعصباً على أهل بلده ـ وبيّن أن أهل بلده لو فقدوا العقل والهمة والشجاعة ما وقفوا في وجه أعدائهم المجاورين قروناً، وأنهم شديدو التمسك بدينهم مع إحاطة النصارى بهم. ويعاتب أهل الشام الذين تركوا الصليبيين يفعلون ما فعلوا في حلب وغيرها، رغم وجود محيط إسلامي، ويعيد ذلك لتفرق كلمة ملوك المسلمين هناك، واستعانة بعضهم بالنصارى على إخوانهم في الدين.
وقد أشاد المقري بفضل أهل الأندلس على بلاد المغرب، على إثر انتقالهم إليه، بعد الطرد الجماعي الذي لحقهم. فقد نقلوا معهم خبراتهم وعلومهم، وسيطرت صناعتُهم على الصناعة المحلية وفاقتها، وتقلدوا مناصب عالية في الدولة ووقفوا لنشر العلم والمعرفة.
نقد وتعليق:
لقد فطن المقّري لأهمية المكان، فبدأ في الباب الأول من القسم الأول من كتابه بالحديث عن جغرافية بلاد الأندلس، وحاول تحديد اسمها ووصف خصائص مناخها، كما ذكرَ مدنها وبعض مميزات سكانها، كتوطئة لما سيقوله فيما بعد.
وهكذا أعطى المقري الجغرافيا حقها في كتابه، بإعطائنا صورة عن مدن الأندلس وسكانها، اعتماداً على أقوال مؤرخين وكتاب سبقوه في أغلب الأحوال.
وقد ألف المقري كتابه هذا، وهو في القاهرة، مغترباً عن بلده تلمسان، فوجد في ذلك التفرغ للكتابة تزجيةً للوقت. كما أنه وجد في جغرافية وتاريخ الأندلس تذكيراً ببلده وماضيه، واستعادة لذكريات "روايات مهاجري الأندلس إلى بلده تلمسان عما لحقهم بوطنهم، وما أصابهم في دينهم، إثر عملية الطرد الكبرى على عهد الملك الإسباني فيليب الثاني سنة (1609م"([26]) ـ 1016هـ) حيث كان موجوداً ـ آنذاك ـ بتلمسان بعد عودته من المغرب الأقصى (1602 ـ 1612م).
وهكذا أصبح كتابه: "نفح الطيب" من أبرز المراجع المكتوبة حول الأندلس، لقرب صاحبه ـ زمنياً ـ من آخر وقائع تلك البلاد ودرايته بتاريخها. فقد قضى سني حياته الأولى: طفولته وشبابه، متنقلاً بين تلمسان وفاس ومراكش، واطلع على جلّ ما يتعلق بأوضاع المغرب العربي عامة، وعرض لنا كل ما كُتب وألف حول تاريخ تلك البلاد (الأندلس).
لقد تحدث المقري عن أهم مدن الأندلس، وساق "مفاضلة بين مدينتي قرطبة وإشبيلية لأبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر"([27]). وجمع معلومات جمة عن تلك المدن في كتابه الذي وصلنا سالماً، فأصبح مرجعاً لا يستغنى عنه أي باحث في تاريخ أو أدب بلاد الأندلس. ولو تمكن المؤلف من زيارة بلاد الأندلس ـ آنذاك ـ والاطلاع على ما آلت إليه الأوضاع هناك لكانت النتيجة أفضل والمعلومات أوفر. ولكن الفرصة لم تسنح له مثلما سنحت لغيره من المغاربة، كأحمد بن المهدي الغزال الذي زار الأندلس سنة (1766م ـ 1179هـ)، أي بعد وفاة المقري بأكثر من قرن من الزمن. والذي كان قد أُرسل من قبل السلطان المغربي محمد بن عبد الله في مهمة رسمية. "وكانت تعليمات الوفد تقضي بأن يقيّد مشاهداته في إسبانيا، ويصف المدن التي يراها"([28]).
أما ما يؤاخذ عليه المقري فهو أنه لم يتّبع في حديثه عن المدن الأندلسية ذلك التقسيم الذي وضعه في بداية كتابه، والذي قسم فيه بلاد الأندلس إلى أقسام ثلاثة (شرق وغرب ووسط). فلم يتحدث عن المدن، كل في إقليمها السابق، بل وجدناه يتحدث عن بعض المدن قبل تقسيمه هذا، فقد تحدث عن غرناطة وسرقسطة ومالقة وأشبونة وقرطبة وأشبيلية والمرية قبل أن يتحدث عن هذا التقسيم.
ثم إنه لم يحدد باباً واحداً للحديث عن المدن وسكانها، فإذا كان قد خصص الباب الأول من القسم الأول ـ كما ذكرنا سابقاً ـ للحديث عن جغرافية الأندلس ومدنها وأشياء أخرى، فإنه عاد في الباب الرابع للحديث عن ثلاث حواضر هامة هي قرطبة والزهراء والزاهرة بشكل مفصل مسهب. وفي الباب السابع تعرّض لمحاسن بعض المدن وخصوصياتها من خلال رسالة الشقندي كإشبيلية وقرطبة وغرناطة...
وهو لا يوفي حديثه عن مدينة من هذه المدن حتى ينتقل إلى غيرها ليذكر قول مؤرخ أو رحالة أو أديب، ثم يعود ثانية وثالثة إلى هذه المدينة أو تلك ليورد قولاً لأحدهم أو قصيدة أو مجموعة من الأبيات قيلت في محاسن هذه المدن. ويتكرر هذا مع جل المدن الأندلسية التي وردت في كتابه.
أما الحديث عن السكان فقد جاء متناثراً عبر فقرات الكتاب وبخاصة في الباب الأول من القسم الأول، وقد عاد للحديث عنهم في الباب السابع من القسم نفسه، فتكلم عن فضائل أهل الأندلس وأخلاقهم وسلوكهم الحسن.
وقد أوقعته هذه الخطة في التكرار الواضح أحياناً. من ذلك أنه كرر الحديث، وبالعبارات نفسها، مرتين عن الرياسة وسعة العلم والتشنيع على الولاة عند أهل الأندلس، وذلك في صفحتي 155 و462 من المجلد الأول من كتابه الذي حققه إحسان عباس.
وهو لم يفصّل الحديث في وصف القصور والأسوار والأبراج، وهي من المعالم البارزة، والتي لا تزال آثارها شاهدة عليها إلى اليوم، مع العلم أن "المدينة في ذلك العصر كانت عبارة عن قلعة محمية بأسوارها، ومتميزة بشكل واضح عن الأراضي المنبسطة المجاورة لها"([29]). وكانت الحصون والقلاع والقصور تتناثر على طول البلاد وعرضها، لأن ذلك كان من شروط المجابهات العسكرية التي لا تتوقف إلا لتستأنف من جديد.
ثم إن ما يتميز به كتاب "نفح الطيب"، عامّة هو شدة اعتماد المؤلف على الاقتباس عن أشخاص يذكرهم بأسمائهم حيناً كابن سعد وابن مفلح وابن حوقل والحِجاري، ويكتفي أحياناً أخرى بقوله: قال بعض العلماء أو بعض المؤرخين، أو قال بعضهم أو قال غيره... الخ.
وهو لا يُعقّبُ ولا يعلق على تلك الأقوال والرّوايات، بل يكتفي بسردها، وينتقل من موقف إلى آخر مستعرضاً إياها على أنها القول الفصل.
وأخيراً لا يسعنا إلا أن ننوه بالكاتب والكتاب، لما في هذا الأخير من معلومات ثريّة وأخبار طريفة، تاريخاً وأدباً، منثوره ومنظومه، خاصة وأنه جاء من مؤلف جال البلاد العربية مشرقاً ومغرباً، مما وسّع من أفقه وسهل من مهمته. وبذلك احتل الكتاب مكانته اللائقة داخل المكتبة العربية وضمن تراثنا الثمين.
* أستاذ بقسم التاريخ، كلية العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية، جامعة وهران، الجزائر.
([1]) أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المجلد الأول، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بدون تاريخ، ص125.
([2]) المرجع نفسه، ص226.
([3]) المرجع نفسه، ص176 ـ وابن بطوطة في الرحلة ج: ح ـ سلسلة الأنيس بالجزائر، ص344.
([4]) المقري المرجع نفسه، ص168.
([5]) المرجع نفسه، ص184.
([6]) المرجع نفسه، ص197.
([7]) المرجع نفسه، ص158.
([8]) المقري المرجع نفسه، ص148 و177.
([9]) جيمس فرغريف، الجغرافيا والسيادة في العالم ـ ترجمة علي رفاعة الأنصاري ومحمد عبد المنعم الشرقاوي، مكتبة النهضة المصرية 1958، ص23.
([10]) المقري، المرجع السابق، ص177، ويوجد قصر الرصافة أيضاً في بلاد الشام (رصافة هشام).
([11]) المرجع نفسه، ص179 و180.
([12]) الكور: جمع كورة وهي البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى.
([13]) المقري المرجع السابق، ص148.
([14]) السيد عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين في الأندلس، دار النهضة العربية، بيروت 1981، ص349.
([15]) المرجع نفسه، ص196.
([16]) المرجع نفسه، ص197.
([17]) وهو الابن الأكبر للحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، والمولود بطليطلة (792 ـ 852)م.
([18]) المقري، المرجع السابق، ص226.
([19]) المقري المرجع نفسه، ص207.
([20]) عفيف البهنسي (الفن العربي الإسلامي) دار الفكر، ص87.
([21]) محمد شهاب أحمد وعبد الصاحب الحموي العزاوي (العمارة وأساليبها النظرية لتطور أشكالها) دار قابس، بيروت1999، ص7.
([22]) المقري المرجع السابق، ص220.
([23]) المقري، المرجع نفسه، المجلد الثالث، الباب السابع، عن الحجاري في المسهب، ص155.
([24]) المرجع نفسه، ص219.
([25]) المرجع نفسه، ص219.
([26]) نصر الدين سعيدوني (من التراث التاريخي والجغرافي في الغرب الإسلامي) دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998، ص332.
([27]) محمد بن عبد الكريم، المقري وكتابه نفح الطيب، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص348.
([28]) أحمد بن المهدي الغزال (نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد) تحقيق إسماعيل العربي، ديوان المطبوعات الجامعية في الجزائر، 1984. ص9.
([29]) جاكلين بوموقاريني (الجغرافيا الحضرية) ترجمة حليمي عبد القادر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1989، ص10.
| |
| |
|