المعتمد بن عباد Admin
الموقع : اندلسى
| موضوع: التتار والعالم العربى: الوجه الآخر الأربعاء ديسمبر 01, 2010 6:55 pm | |
| اقترن ذكر التتار في التاريخ، غالبا، بالحرب والغزو، ولكن هناك جانبًا مختلفًا عن الحرب والغزو اللذين سيطرت أخبارهما على صفحات كتب المؤرخين والمعاصرين، وسنحاول التركيز على جوانب العلاقات الإيجابية على المستوى السكاني، والاجتماعي، والثقافي بين العالم العربى والتتار. على الرغم من أن دولة مغول القفجاق (القبيلة الذهبية) حول نهر الفولجا جنوب روسيا، قد سبقت مغول فارس في اعتناق الإسلام منذ عهد بركة خان, فإن التتار في فارس قد دخلوا الإسلام أيضًا بعد اعتناق قازان (غازان) الإسلام في أواخر القرن الثالث عشر الميلادى. كان إسلام «بركة خان»، زعيم القبيلة الذهبية فرصة لبناء نوع من العلاقات مع المنطقة العربية، فقد رأى السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري (وهو من مغول القفجاق أيضًا) في هذه المملكة المغولية حليفًا مهمًا ضد هولاكو وأتباعه ممن كانوا لايزالون على الوثنية. وقد توترت العلاقات بين بركة خان (كبير سلالة جنكيز خان آنذاك) وهولاكو، وتراشق الاثنان بالاتهامات، كان هولاكو غاضبًا لأن بركة خان اعتنق الإسلام على حين كان بركة خان حانقًا على هولاكو؛ لأنه دمر جميع مدن المسلمين وقضى على أسر ملوك الإسلام جميعهم، ولم يميز بين الصديق والعدو وأعدم الخليفة، من دون مشورة كبار الأسرة، ثم تطورت الأمور بين الجانبين إلى مستوى الحرب الفعلية. وقد أدى هذا الموقف إلى تقارب بركة خان مع السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس المؤسس الفعلي لدولة سلاطين المماليك في مصر. وقد كان الطرفان حريصين على هذا التقارب لمواجهة العدو المشترك المتمثل في مغول فارس. من خضم أهوال الحرب بدأت العلاقات الإنسانية تحفر طريقها بين الجانبين، وقد ذكرت المصادر التاريخية في حوادث العام 660هـ / 1662م قدوم هجرة محدودة من التتار على حدود بلاد الشام، فأمر بيبرس بإكرامهم وإرسالهم إلى مصر، وقابلهم بنفسه. وكانوا حوالى مائتي فارس ومعهم أولادهم ونساؤهم، وسكنوا بأرض اللوق في القاهرة، وجعل بيبرس أكابرهم من أمراء دولته، ثم ضم الباقين إلى فرقة المماليك البحرية. واعتنقوا الإسلام. ويبدو أن معاملة بيبرس الكريمة لهم قد أغرت مزيدًا من التتار على القدوم إلى مصر، ففى السنة التالية جاء من التتار أكثر من ألف وثلاثمائة فارس سكنوا أيضًا في اللوق. ووصل رسولان من بركة خان وهما جلال الدين بن قاضي دوقات، وعز الدين التركماني يحملان رسالة ودية إلى بيبرس الذي رد ردًا جميلاً، وأرسل إلى بركة خان رسالة مصحوبة بهدية فاخرة، وأعلن موافقته على ما جاء في رسالة بركة خان. وقد قابل بركة خان رسل بيبرس وأعجبته رسالة بيبرس. ومن ناحية أخرى أمر بيبرس بالدعاء للخان التتري على منابر القاهرة والقدس والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما تزوج بيبرس من ابنة بركة خان توطيدًا لهذه العلاقات. وعلى مستوى آخر تمثلت العلاقات الدينية بين العالم العربى ودولة مغول القفجاق في وجود عدد من الفقهاء المسلمين في بلاط بركة خان، وقد كان عنده صوفي من أهل الفيوم اسمه «الشيخ أحمد المصري»، و«... له عنده حرمة كبيرة...». وعند كل أمير من أمرائه مؤذن وإمام، ولكل «خاتون» مؤذن وإمام، وللصغار مكاتب يتعلمون فيها القرآن الكريم. وفى سنة 670هـ وصلت رسل بيت بركة خان، زعيم القفجاق، «... وكان مضمون الرسالة على أيدي رسل بركة، مكتوبًا بجميع ما استولى عليه هلاوون (هولاكو) مما كان في أيدي المسلمين من قبل، يكون في ملك السلطان الملك الظاهر, وأن يساعدهم على قلع آثار بيت هلاوون، فأحسن السلطان لهم الجواب في ذلك ووعدهم ببلوغ المقصود». وتولى الحكم بعده ابنه السلطان الملك السعيد ناصر الدين بركة خان، «وهو ابنه الذي أنجبه من ابنة بركة خان، زعيم المغول القفجاق، وقد أعطاه نفس اسم جده لأمه تيمنًا بهذا الجد. وكان عمر الابن سبعة عشر عامًا، ودخل دمشق في شهر ذي الحجة من السنة نفسها وصحبته والدته بنت بركة خان. ولكن السلطان الصبي لم يكن على شاكلة أبيه. وبعد تطورات خلع نفسه من الحكم. وتولى الحكم «السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي العلائي». ويرجع أصله - مثل سلفه ركن الدين بيبرس - إلى مغول القفجاق. وهم الذين سبقت الاشارة إليهم, وعندما تولى الحكم كانت علاقاتهم بدولة سلاطين المماليك ممتازة بسبب التحالف والمصاهرة بين بيبرس وبركة خان، وربما يكون من الأمور ذات الدلالة والأهمية أن بيبرس وقلاوون كانا من القبيلة الذهبية، وان زوجة بيبرس وأم ابنه السلطان السعيد بركة خان هى ابنة خان هذه المملكة المغولية. مواجهة التتار على أي حال، فإن السلطان المنصور قلاوون ورث سياسة سلفه بيبرس، وكان عليه مواجهة تتار فارس، الذين انتهزوا فرصة الاضطراب الذى أعقب وفاة بيبرس ومتاعب البداية التى واجهت قلاوون، وبدأوا شن هجماتهم على المناطق الخاضعة لحكم دولة سلاطين المماليك، ثم مات أبغا بن هولاكو، وأخذت العلاقات مع التتار اتجاها آخر - لم يستمر طويلا بعد أن اعتنق تكودار هولاكو الدين الإسلامي. إذ تولى هذا الرجل حكم فارس وسمى نفسه «أحمد أغا سلطان بن هولاكو». وقد أكرم السلطان المنصور قلاوون رسل الخان التتري، وخرجوا من القاهرة سرًا كما دخلوها سرًا. على أي حال، كان أحمد تكودار قد اعتنق الإسلام قبل ولاية العرش. وقد أرسل إلى فقهاء بغداد رسائل تحمل هذا المعنى. مشكلات الوراثة بيد أن مشكلات وراثة العرش في مملكة مغول فارس كانت سببًا في تطور الأمور على النحو الذي أدى إلى خروج أرغون بن أبغا، الذى كان أبوه قد عهد إليه ولاية العرش، ضد عمه أحمد تكودار في خراسان. وعلى الرغم من هزيمة أرغون وسقوطه أسيرًا في يدي عمه الذى «... عاد طالبًا تبريز. فحضرت زوجة أرغون ووالدته، وخواتين كثيرة من الستات التى لهم الحق في الدخول على الملك والسؤال في العفو عن أرغون وإطلاق سبيله والاقتصار به على خراسان كما كان...». على حد تعبير المؤرخ بيبرس الدوادار. ولكن التتار في فارس - أو كبارهم بالأحرى - كانوا قد حقدوا على الخان أحمد سلطان تكودار عندما رفض إطلاق سراح أرغون، قبل تدخل قريباته من الخواتين، وقبض على عدد من كبار التتار في فارس، وألزمهم اعتناق الدين الإسلامى. وقد ساروا جميعًا وأطلقوا سراح أرغون من سجنه، وطردوا أحمد تكودار وقتلوه، واعتلى أرغون بن أبغا عرش المملكة، في الوقت الذى كانت فيه رسل الملك المقتول أحمد تكودار قد وصلت إلى القاهرة تحمل رسالة ثانية منه إلى السلطان المنصور قلاوون، ولكن السفارة جاءت بعد فوات الأوان. على الرغم من أن أرغون أبغا بذل جهدًا كبيرًا لمحاربة الإسلام في آيلخانة التتار في فارس؛ لدرجة أنه عين اليهودي «سعد الدولة» وزيرًا له، فإن فترة حكمه كانت بمنزلة انقطاع مؤقت في عملية تحول بطيء وأكيد للتتار من حياة الرعي إلى ثقافة الحضر، ومن البوذية إلى الإسلام، كما أن أعدادًا متزايدة من التتار أخذوا يدخلون في نسيج الحياة الاجتماعية في العراق وإيران، واستوعبتهم الثقافة العربية الإسلامية. وفى الوقت الذى كان فيه سفراء أحمد تكودار في القاهرة يتلقون نبأ موت سلطانهم من السلطان المنصور قلاون, جاءت سفارة من مغول القفجاق من «تدان منكو بن طوغان بن دوشي بن جنكيز خان» ملك القفجاق تقول إنه أسلم «... ويريد أن يُنعت نعتًا من نعوت أهل الإسلام، ويُجهز له علم خليفتي وعلم يقاتل بهما أعداء الدين...» وقد أكرم السلطان المملوكى الرسل، وأمر بسفرهم إلى الحجاز ومن هناك سافروا إلى بلادهم ومعهم ما طلبوه. هذه إشارة أخرى مهمة على أن التتار القفجاق كانوا أكثر اقترابا من العالم المسلم على الرغم من بعدهم الجغرافى نسبيًا، كما أنها إشارة ذات دلالة مهمة على أن الحرب والغزو قد أفسحا مكانهما للعلاقات السلمية، وتخليًا عن مكانهما للتواصل الانسانى بين أعداء الأمس الذين صاروا ابناء حضارة واحدة قوامها الإسلام. وإذا كانت الاتصالات المملوكية - القفجاقية تعد إرهاصات تنبئ عما حدث في وقت لاحق، فإن لنا أن نتلمس تلك العلاقات الإنسانية الإيجابية التى اختفت خلف قعقعة السلاح أو كادت. إذ كان الإسلام وحضارته يجتذبان محاربى الأمس الأشداء الذين قضوا على الخلافة العباسية وبثوا الرعب في أوصال كل من تعامل معهم، فتحولوا إلى أبناء ثقافة حضرية بناءة، ودخلوا في النسيج العام للحضارة الإسلامية وصاروا من أشد المدافعين عنها. ويبدو أن هذا الملك المغولى كان قد سئم مسئوليات الحكم فتخلى عن العرش لابن أخيه «تلابغا بن منكوتمر» بعد حكم استمر حوالى خمس سنين. وكان السلطان المنصور قلاوون قد جهز هدية إلى هذا الحاكم وأرسل مبلغًا من المال لعمارة مسجد جامع بالقرم، واشترط أن تكتب على الجامع ألقاب السلطان قلاوون. هكذا كانت العلاقات تزداد توطدًا بين سلطنة المماليك في مصر والشام من ناحية وبين التتار القفجاق من ناحية أخرى على مر الأيام. اعتناق الإسلام كانت ولاية غازان (قازان) نقطة تحول مهمة في تاريخ التتار في فارس؛ فقد اعتنق هذا الحاكم الإسلام في أثناء ولايته على إقليم خراسان. وتذكر الروايات التاريخية أنه أسلم بتأثير من الأمير نوروز الذى كان زوج عمته ومربيه أيضا. وعلى أي حال كان اعتناق غازان الدين الإسلامى منعطفا مهمًا في تاريخ العلاقات بين التتار والمنطقة العربية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي. ففى نهاية العام 694هـ - 1295م اعتلى عرش الإيلخانية، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان أول مرسوم أصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمى لدولة مغول فارس، وأن الشريعة الإسلامية هى أساس نظام الدولة. هكذا كان لابد للتتار الذين يحكمون بلادًا مسلمة أن يعتنقوا الدين الإسلامى. ولم يكن الأمر مجرد انتقال من دين إلى دين، بل كان دخولاً عضويًا في نسيج الحضارة الإسلامية التى اكتسبت دماء جديدة وحيوية متجددة بدخول العناصر التترية فيها. وبطبيعة الحال كانت هذه الحادثة المهمة - أى اعتناق التتار في فارس الإسلام - تأكيدًا على أن فترة جديدة في تاريخ المغول قد بدأت باندماجهم في المجتمع الفارسى المسلم الذى حكموه، وتحولهم من البداوة إلى الحياة الحضرية المستقرة. وكان من مظاهر اعتناق غازان الإسلام أن سادت مظاهر الإسلام السني سواء من حيث ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة والعيدين والمناسبات من فوق منابر المساجد، أو من حيث نقش أسمائهم على العملات التى سكها غازان، وما إلى ذلك من مظاهر. وخلف القسمات المتجهمة الصارمة لهذا العنف السياسي، كانت هناك ملامح إيجابية في العلاقات بين التتار والمسلمين في المنطقة العربية تجلت في عدد من الحقائق المهمة على مستويات مختلفة: أولا: أن السلطان المملوكى العادل زين الدين كتبغا الذى حكم من المحرم 694هـ حتى المحرم 696هـ (على مدى سنتين وسبعة عشر يوما) في أثناء الفترة ما بين سلطنة الناصر محمد الأولى وسلطنته الثانية، كان من المغول أصلاً. وقد تولى الحكم في وقت مقارب لتولي غازان الحكم في إيلخانة مغول فارس. ثانيًا: كان هناك عدد من التتار الذين هاجروا إلى مصر منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس، واستقروا بها ولعبوا دورًا مهمًا في الحياة السياسية، منهم عدد في خدمة السلطنة وعدد في فرق الجيش. وقد ذكر المؤرخ جمال الدين أبوالمحاسن بن تغري بردي شخصًا اسمه «قنقغ»، هاجر من بلاد التتار إلى مصر في زمن الظاهر بيبرس، فرزقه الله اثني عشر ولدًا كلهم ذكور؛ منهم ستة في خدمة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، وخمسة في خدمة الشجاعى (وزير ومدبر الدولة في سلطنة الناصر محمد قلاوون الأولى) وواحد منهم صغير «... وكان لقنقغ هذا منزلة عند الشجاعي وكلمة مسموعة، وشفاعته مقبولة، وله اطلاع على أمور الدولة بسبب أولاده...». ثالثا: أن هجرات التتار المسالمين إلى بلاد الشام ومصر كانت مستمرة - لأسباب عديدة- في عصر سلاطين المماليك (الدولة الأولى) على الرغم من الالتهاب السياسي والعسكري الذى شاب العلاقات بين مغول فارس ودولة سلاطين المماليك في البداية. إذ إن المصادر التاريخية تحدثنا عن هجرة كبيرة من التتار إلى مصر سنة 695هـ. وكانت هذه الهجرة, التى قادها «طوغاي» زوج ابنة هولاكو، من طائفة الأويراتية التي كان منها السلطان العادل زين لدين كتبغا نفسه. وكان عددهم حوالى ثمانية عشر ألف بيت هربوا من غازان وعبروا نهر الفرات إلى بلاد الشام. ويفهم من كلام المقريزي أنهم كانوا على وثنيتهم «... فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم، وأمّر عدة منهم، وبقوا على كفرهم، ودخل شهر رمضان فلم يصم أحد منهم, وصاروا يأكلون الخيل من غير ذبحها؛ بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل. فأنف الأمراء جلوسهم معهم بباب المقلة في الخدمة، وعظم على الناس إكرامهم بغضهم في السلطان...». ولكن المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي يقول إنهم كانوا حوالى عشرة آلاف من عسكر بيدو ملك التتار، وأنهم طلبوا الدخول في الإسلام خوفًا من السلطان غازان، ومقدمهم اسمه «طوغاي» زوج ابنة هولاكو. والراجح لدينا أن رواية بن تغري بردي هي الأصح؛ لأن بن أيبك الدواداري - الذى كان معاصرًا للأحداث - ذكر رواية ربما يكون بن تغري بردي اعتمد عليها تؤكد دخولهم الإسلام. تداخل وتزاوج هكذا، تكشف الرواية الأقرب الى الحدث أن التتار الذين وفدوا الى الشام كانو أعلنوا إسلامهم، وربما تكون شكوى المقريزي من تصرفاتهم ناجمة عن حداثة عهدهم بالدين الإسلامى من ناحية واختلاف عاداتهم وتقاليدهم عن عادات وتقاليد المصريين من ناحية أخرى. ولكن المقريزي وغيره يذكرون أن الاوراتية قد اندمجوا في الحياة القاهرية في ما بعد، وأحبهم الناس وأقبلوا على الزواج منهم لأنهم كانو يتصفون بالجمال وحسن الصورة. وعلى الرغم من أن السلطان حسام الدين لاجين قبض على كبيرهم طرغاى وحبسه مع جماعة من كبارهم في مدينة الإسكندرية، فإن أعدادهم زادت وسكنوا حي الحسينية من أحياء القاهرة «... فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمال البارع، وأدركنا من ذلك طرفا. وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة؛ وكان يقال لهم البدورة؛ فيقال البدر فلان والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوة وحمل السلاح. ويؤثر عنهم حكايات كثيرة وأخبار جمة. وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر أخطاط مصر والقاهرة، حتى لقد قال لى ثقة ممن ادركت من المشيخة إنه يعرف الحسينية عامرة بالأسواق والدور وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس من الباعة والمارة وأرباب المعايش، وأصحاب اللهو والملعوب في ما بين الريدانية محطة المحمل يوم خروج الحاج من القاهرة، وإلى باب الفتوح لا يستطيع الإنسان أن يمر في هذا الشارع الطويل العريض طول هذه المسافة الكبيرة إلا بمشقة من الزحام...». هذا النص النادر يكشف عن مدى تغلغل التتار في الحياة المصرية، لأنه يشير إلى دورهم في الحياة القاهرية منذ قدومهم سنة 695 هجرية حتى حياة المقريزي (ت 845هـ). وبطبيعة الحال كانوا قد تمصروا تماما طوال هذة السنوات المائة والخمسين؛ ولكنهم تركوا بصمتهم على أحد أشهر أحياء القاهرة؛ وهو حي الحسينية الذى يقع في قلب القاهرة الآن بعد ان كان على أطرافها الشمالية الشرقية في عصر سلاطين المماليك ويمكن القول من دون مبالغة إن هذا الحى صار حيًا تتريًا. رابعا: أن التتار قد أسهموا في التصوف الإسلامى؛ ففى سنة 703 هجرية، وفي أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاون الثانية، «... ورد الخبر على السلطان الناصر بقدوم رجل من التتار إلى دمشق، يقال له الشيخ «براق»، ومعه جماعة من الفقراء (الصوفية)... وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس وله صولة، ومعه طلبخاناه تدق له نوبة (مثل كبار الأمراء الذين كانت تدق لهم الطبول عند أبوابهم أثناء الدخول والخروج)، وله محتسب على جماعته، يؤدب كل من يترك شيئا من سنته بضربه عشرين عصة تحت رجليه... ولكن السلطان منعهم من القدوم إلى الديار المصرية؛ فسار إلى القدس، ثم رجع إلى بلاده...»، وكان براق هذا من القرم، من إحدى قرى دوقات وكان أبوه أميرًا كما كان عمه كاتبًا معروفًا ولكنه سار في طريق الصوفية، وقد ذكرت المصادر التاريخية خوارق نسبتها إليه. هذه الأمثلة الأربعة التى قدمناها في الصفحات السابقة تؤكد أن التتار لعبوا أدوارًا مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في العالم العربى منذ طرقوا أبوابه في القرن السابع الهجرى - القرن الثالث عشر الميلادى. فقد كان منهم كبار السلاطين (بيبرس، وقلاوون، وكتبغا)، وكان منهم كبار العسكريين الذين لعبوا أدوارًا مهمة في الصراعات المعتادة بين المماليك على السلطة، فقد ذكر بن تغري بردي التتار بوصفهم جماعة ذات بأس وهو يتحدث عن الصراع بين الشجاعي وكتبغا الذى تولى الحكم. كذلك كان منهم الناس العاديون الذين جاءوا في هجرات كبيرة منذ أيام السلطان الظاهر بيبرس، وقد تأثر هؤلاء بالحياة الحضرية؛ سواء في مدن بلاد الشام أو في المدن المصرية عامة، وفى مدينة القاهرة بشكل خاص وفقًا لما أوضح المؤرخ تقي الدين المقريزي في خططه الشهيرة عند حديثه عن حي الحسينية. وعلى مستوى العادات والتقاليد كان التأثير المتبادل بين التتار المستوطنين وأهالى البلاد التى عاشوا بها واضحًا في أنواع الأكل والشراب التتارية التى دخلت قائمة الطعام الشامية والمصرية والعراقية، أو في أنماط الملابس التى اتخذها التتار الذين قلدوا أهالى البلاد التى استوطنوها. ومن ناحية أخرى، دخل التتار نسيج الحياة الاجتماعية من خلال المصاهرة والزواج، وتذكر المصادر التاريخية أن الناس في مصر، مثلا، كانوا يقبلون على التزاوج مع التتار بسبب جمالهم وحسنهم؛ بل إنهم كانوا يشجعونهم على الهجرة من بلادهم، ومن فارس والعراق وبلاد الشام, إلى مصر. *** خلاصة القول إذن إن صفحات العلاقات الإيجابية بين التتار والمنطقة العربية في عصر سلاطين المماليك كثيرة وناصعة على الرغم من أن لون الدم والنار والدخان يغلب على صفحات العلاقات العسكرية، صحيح أن المعارك العسكرية هي الأعلى صوتًا في التاريخ، ولكن العلاقات السلمية الايجابية هى الأبقى والأقوى تأثيرًا. فقد صار التتار قوة مهمة مضافة إلى الحضارة العربية الإسلامية, كما أنهم صاروا عضوا مهمًا داخل دار الإسلام في ذلك الزمان، وما بعده. | |
|