المعتمد بن عباد Admin
الموقع : اندلسى
| موضوع: معركة عين جالوت السبت نوفمبر 06, 2010 9:20 pm | |
| شخصيتان تاريخيتان متناقضتان، تقفان على طرفى نقيض، تردان على البال عندما يرد ذكر معركة عين جالوت في أية مناسبة, أو عندما يقرأ المرء عن هذه المعركة: إحدى هاتين الشخصيتين جنكيزخان الذي أسس القوة المغولية التي تفرعت عنها جيوش هولاكو التي أسقطت الخلافة العباسية، والتي دخلت غازية في المنطقة العربية لتصطدم في نهاية المطاف بالقوة المملوكية الصاعدة وتنكسر قوتها الطاغية في عين جالوت منذ سبعمائة وخمسين عاماً. والشخصية الثانية التي يفصلها عن الأولى جيل واحد على الأقل، هو سيف الدين قطز, الذي يبدو وكأنه جاء لإنجاز مهمة تاريخية محددة، ويرحل من المشهد الذي لم يكن دوره فيه ليستمر سوى أقل من السنة. إذا كان جنكيزخان يحكم مشهد البداية، فإن سيف الدين قطز هو الذي حكم مشهد النهاية. كان جنكيزخان «ومعنى الاسم ملك الملوك» قد نجح في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف قبل بزوغ شمس القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، امتدت حدودها من تخوم بلاد الصين شرقا حتى منطقة البحر الأسود وبحر قزوين غربا. وكان اسمه الحقيقي «تيموجي» ومعناه الصلب النقي. وقد برز اسم هذا القائد المغولي للمرة الأولى عندما قاتل التتار على رأس كتيبة من ارستقراطية الرعاة وانتصر عليهم, وصار خاقانا على المغول ؛ وبذلك أعاد إحياء اسم أسرة المغول بعد اندثاره في منغوليا نفسها. وعلى الرغم من أن الوثائق الصينية تطلق عليهم اسم «يوان» على المغول, فإنهم قد عرفوا في منغوليا نفسها باسم «التتار». وتستخدم المصادر التاريخية العربية الاسمين معا، ولكن اسم التتار أو التتر, يتردد في هذه المصادر بوتيرة أكبر من اسم المغول. وقد أفاد جنكيزخان من التجار المسلمين الذين استضافهم في بلاطه ليكونوا أول معلمي المغول في مضمار الحضارة. وكانت ديانات المغول موزعة بين عبادة الشمس, والمسيحية, والإسلام, والبوذية... وكان التسامح الديني سائدا بينهم . خرجت جيوش جنكيزخان من موطنها بمناطق الاستبس في وسط آسيا على براذينهم الصغيرة السريعة، وأخذت تجتاح البلاد القريبة، وكان أول صدام بين المغول والعالم الإسلامي في سنة 616 هجرية /1219م، عندما أغاروا على بلاد السلطان «علاء الدين محمد بن خوارزم شاه تكش» التى كانت مجاورة لبلاد جنكيزخان. وبعد عدة حروب تبادل فيها الطرفان النصر والهزيمة، استطاع المغول القضاء على مملكة جلال الدين خوارزم شاه الذي اختفى هربا من سيوفهم. وقد كان سقوط هذه المملكة نذير شؤم بالنسبة للخلافة العباسية التي كانت قد استعانت بالمغول ضد جلال الدين في عهد الخليفة الناصر لدين الله (ت622هجرية). وبينما كانت قوة المغول آخذة في التصاعد كانت أحوال الخلافة العباسية تتدهور بشكل مطرد لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. كان أول هجوم يشنه المغول على بغداد سنة 635 هجرية ولكنهم هزموا ولم يتمكنوا من دخول العاصمة العباسية، واضطروا إلى الانسحاب. وفى سنة 655هجرية/1257م قاد هولاكو جيوشه في اتجاه بغداد، وبعث يطلب الضيافة من الخليفة «... ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة، وملك ظاهر بغداد وقتل من الناس عالما كبيرا...» على حد تعبير المؤرخ تقي الدين المقريزي. وهكذا باتت بغداد تحت رحمة جحافل المغول المدمرة وصار سقوط بغداد مسألة وقت فقط. ثم جاءت الصدمة العظمى التي زلزلت العالم الإسلامي في السنة التالية 656هجرية /1258م، ففي أول شهر صفر من تلك السنة أمر هولاكو بالهجوم العام على بغداد. وكان الهجوم عاصفا وعنيفا أفاضت المصادر المعاصرة في وصف أهواله. وفى اليوم الرابع من الهجوم استسلم الخليفة العباسي المستعصم بالله, وسلم عاصمته من دون شرط. وبعد عشرة أيام قتل الخليفة وآل بيته «... وقتل الناس ببغداد، وتمزقوا في الأقطار، وخرَّب التتار الجوامع والمساجد والمشاهد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوما ...». وخربت العاصمة التي كان اسمها مرادفا للحضارة نفسها. وشاعت قصص الرعب الحقيقية والمصطنعة تحكى ما فعله المغول بالمكان وبالناس. كانت صدمة عنيفة زلزلت العالم الإسلامي، فقد وجد المسلمون أنفسهم من دون خليفة للمرة الأولى في تاريخهم، وعجز الناس عن تصور العالم من دون الخلافة وخيل للمسلمين «... أن العالم على وشك الانحلال وأن الساعة آتية عن قريب ...». ولم يكن الأيوبيون المتناحرون في بلاد الشام قادرين على مواجهة الموقف ؛ فقد سقطوا فريسة للعجز والذعر. وفى القاهرة كانت سلطنة المماليك قد شهدت تتويج السلطان المظفر سيف الدين قطز, بعد عزل السلطان الطفل المنصور علي، وبينما كان السلطان الجديد يحاول توطيد سلطته جاءته رسالة من هولاكو تنضح كلماتها بالغطرسة والغرور، وتحاول بث الرعب في القلوب، وتستغل شهرة المغول بالقسوة: «... إنا جند الله في أرضه, خلقنا من سخطه, وسلطنا على من حل به غيظه .... فنحن ما نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى.... فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي بلاد تحميكم ...» لم يكن أمام السلطان الجديد سوى الإذعان للتهديد أو القتال. ورد قطز بقتل رسل المغول فيما يشبه إعلان الحرب . وتم إعلان الجهاد والتعبئة العامة لقتال التتار. وكانت شهرة التتار ووحشيتهم قد جعلت بعض الأمراء يترددون في الخروج لقتلهم ولكن قطز استطاع إقناعهم بالخروج للقتال بعد أن هدد بالخروج وحده. ومن الشام جاء ركن الدين بيبرس بقواته لينضموا إلى جيش السلطان بعد خصومة طويلة تسببت في هروبهم من مصر لعب فيها قطز دورا رئيسيا. وقد لعب بيبرس دورا مهما في هزيمة المغول في غزة وعين جالوت وبيسان، فضلا عن مطاردة فلولهم فيما وراء الفرات بعد انتهاء المعارك الرئيسية. وبعد أن أتم السلطان سيف الدين قطز استعداداته أمر بخروج الجيش لقتال التتار. كان على مقدمة الجيش الأمير بيبرس البندقداري الذي سوف يعتلي عرش السلطنة فيما بعد وسار إلى غزة بقواته لاستطلاع أخبار التتار، وهناك لقي طلائع جيش التتار حيث هزمهم و طردهم من هناك وسيطر على غزة. وبعد ذلك وصلت قوات الجيش المصري الرئيسي إلى غزة، ثم رحل سيف الدين قطز بقواته عن طريق الساحل الفلسطيني. ومرَّ بعكا التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين. وخرج إليه أمراؤهم بالهدايا ليعرضوا عليه المساعدة ضد المغول ولكنه رفض وطلب منهم البقاء على الحياد, وتوعدهم بالانتقام إذا ما حاولوا إيذاء عسكر المسلمين أثناء سيرهم لقتال التتار . وفي تلك الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري يناوش قوات المغول حتى يخفي تحركات الجيش الرئيسي, ثم لحق به السلطان الذي كان يقود بنفسه بقية قوات الجيش. وكان جيش قطز قد تكاثر بمن انضم إليه من جنود الشام والخوارزمية، كما كان المتطوعون من مصر والشام وفلسطين والبلاد المجاورة أكثر من الجند النظاميين. وفى يوم 26رمضان سنة 656هجرية /2سبتمبر 1260م، على أرض عين جالوت- وهى بلدة صغيرة في الريف الفلسطيني تقع بين بيسان ونابلس - دارت المعركة الحاسمة بين القوات الإسلامية والقوات المغولية. لقد كانت هذه المعركة واحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ المنطقة العربية بأسرها من ناحية، كما كانت تأكيدا للوجود العسكري والسياسي لدولة سلاطين المماليك التي كانت قد خرجت للوجود قبل عشر سنوات فقط من هذه المعركة من ناحية أخرى. وربما يكون مناسبا, قبل التأمل في النتائج المباشرة وغير المباشرة لمعركة عين جالوت، أن نعرض بإيجاز لأحداث المعركة نفسها. فقد جرت المعركة يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان بعد طلوع الشمس «... وفى قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر ...». ثم بدأت تدق الطبول والكوسات (وهي الموسيقى العسكرية التي تحمل الأوامر التي يفهمها الجنود). واتخذ جيش المغول موقعه صوب الجبل على حين كان جيش المسلمين بقيادة سيف الدين قطز في الوادي. وهكذا طلعت شمس ذلك اليوم وقد استعد كل من الجيشين لمواجهة الجيش الآخر بخططه وقواته، وكان السلطان سيف الدين قطز قد أعد العدة لهذه المعركة بشكل جيد. ويرى أحد المؤرخين العسكريين أن القرار الذي اتخذه قطز قبل المعركة، والذي كان يقتضي أن يزحف بجيشه الذي تسبقه المقدمة، بدلا من الاعتماد على الجواسيس أو قوات الاستكشاف المحدودة, كما جرت التقاليد العسكرية السائدة في المنطقة من قبل, كان من أهم أسباب النصر الذي تحقق. فقد خرج بيبرس يقود قوات المقدمة لاستطلاع قوات التتار ودراسة مواقعهم وقواتهم وأسلحتهم وقيادتهم وخططهم. وكان الجديد الذي لم تشهده حروب المنطقة العربية من قبل التطبيق التكتيكي السليم للخطة العسكرية. وقد كشف قطز في خطته عن فهم جيد لفنون القتال، وحقق بيبرس الجزء الأول من هذه الخطة بنجاح كبير عندما قامت قواته بتدمير الحرس الأمامي المغولي في غزة بقيادة بيدرا. وعندما علم «كتبغا نوين»، قائد الجيش المغولي, بهزيمة مقدمة جيشه تحول إلى كتلة متحركة من الغضب الملتهب، وأقبل تدفعه الرغبة في الانتقام من الجيش المملوكي، معتمدا على شهرة جنوده وما شاع عنهم بأنهم الجيش الذي لا يهزم. وهناك عدد من روايات شهود العيان الذين وصفوا لنا تفاصيل المعركة، وهو ما لا يمكن أن نورده هنا لضيق المساحة، ولكن يمكن أن نقدم بعض الاقتباسات عن مسرح المعركة وسير القتال «... وقد امتلأ الوادي، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب الكوسات للسلطان والأمراء, فتحيز التتر إلى الجبل، وعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان، وانتقض طرف منه، فألقى السلطان عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته «وا إسلاماه» وحمل بنفسه ومن معه حملة صادقة, فأيده الله بنصره وقتل كتبغا مقدم التتر.... ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون، وأبلى الأمير بيبرس أيضا بلاء حسنا بين يدي السلطان...». ولكن هذه المعركة العسكرية كان لابد من تأمين نتائجها الباهرة بالقضاء على فلول التتار من الجنود الذين تجمعوا من جديد عند بيسان القريبة من عين جالوت. وقد اشتبك الجيشان في معركة أشد هولا حسبما ذكرت المصادر التاريخية العربية، ولكن الهزيمة التي جرت على المغول كانت كاملة هذه المرة. ومن المؤكد أن تلك كانت المرة الأولى التي يقاسي المغول هزيمة بهذا الهول وهذا الحجم. ولكن أهم ما أسفرت عنه تلك الهزيمة كان كسر حاجز الخوف منهم، وتبددت على أرض عين جالوت وبيسان تلك الأسطورة التي ترددت طويلا عن أنهم قوة لا تقهر. ومن ناحية أخرى, تغيرت موازين القوة السياسية والعسكرية في المنطقة العربية بشكل كامل، وعلى مدى عدة قرون تالية، فقد ذابت في طيات الموجة المغولية العنيفة الخلافة العباسية. وعلى الرغم من أن هذه الخلافة كانت قد فقدت فعاليتها السياسية والعسكرية منذ فترة ليست بالقصيرة، فإنها كانت لا تزال كيانا مهما في العالم المسلم حتى سقوطها على يد المغول. أما التيجان الأيوبية الصغيرة في بلاد الشام فقد اختفت في خضم هذا الصراع. بيد أن أهم النتائج السياسية والعسكرية والاقتصادية لهذه المعركة فقد تجسدت في ظهور دولة سلاطين المماليك وريثا شرعيا لكل من الأيوبيين والعباسيين على السواء. فبعد عين جالوت مباشرة استولى السلطان المظفر قطز على بلاد الشام كلها من مصر إلى الفرات. وبعد عدة سنوات قليلة أعاد السلطان الظاهر بيبرس إحياء الخلافة العباسية في القاهرة : وبذلك كسب الشرعية لحكمه وكسب رضاء المسلمين عنه شخصيا. وما حدث نتيجة النصر الذي تم تحقيقه في عين جالوت أن تم القضاء على الخطر المغولي في المنطقة، ولكن النتيجة الأهم تمثلت في أنه تم توحيد مصر وفلسطين والشام في دولة واحدة صارت القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة على مدى القرنين التاليين على الأقل؛ أي حتى ظهور الدولة العثمانية في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي وهي دولة سلاطين المماليك التي استمرت في الوجود مائتين وسبعين سنة ونيفا. وربما يكون من المناسب هنا أن نشير إلى أن الخطر المغولي على العالم الإسلامي لم يكن في مثل خطورة الخطر الصليبي، الذي كان موجودا بالفعل منذ سنة 1099م عندما نجحت الحملة الصليبية الأولى في زرع الكيان الاستيطاني الفرنجى على أرض المنطقة العربية وكان لا يزال قائما عندما جرت الأحداث التي أدت إلى معركة عين جالوت. ولم يكن لدي المغول مشروع يماثل المشروع الصليبي في تهديده للعالم المسلم. صحيح أن الغزو المغولي كان الأعلى صوتا والأكثر ضجيجا، وصحيح أيضا أن المغول قد زلزلوا العالم المسلم بقضائهم على الخلافة العباسية وتخريب بغداد, وصحيح كذلك أنهم كانوا عنوانا للرعب والذعر في زمانهم, ولكنهم مع هذا كله اعتنقوا الإسلام بعد جيل واحد وصاروا قوة إضافية للحضارة الإسلامية وأسهموا في بناء هذه الحضارة بالشكل الذي تشهد عليه آثارهم الباقية حتى الآن. لقد كان خطرهم آنيا ومرهونا بقوتهم العسكرية التي جعلتهم يطوون البلاد بسرعة مخيفة. كذلك كانت فكرة الغزو والسيطرة على العالم المعاصر تدفعهم لغزو البلاد التي قاموا بغزوها، والتي لم تقتصر على بلدان المشرق الإسلامي. ولكن الأمر كان يختلف تماما بالنسبة للغزو الصليبي ذي الطبيعة الاستيطانية . ذلك أن المشروع الصليبي لم يكن من الممكن أن يتحقق سوى بالقضاء على الوجود الحضاري للمسلمين، فقد كان ذلك صراعا من أجل الوجود ومن أجل الاستيلاء على الأرض تحت راية الصليب على الرغم من أن آثاره المدمرة نالت المسيحيين الأرثوذكس في البلقان وفى المنطقة العربية بشواظها الحارقة. كذلك لم يكن العنف المدمر ينقص الصليبيين الذين كانوا يتحركون بدافع من إيديولوجية دينية متعصبة تنكر على الآخر حق الوجود . يبقى جانب آخر مهم من قصة عين جالوت يتمثل في قصة السلطان سيف الدين قطز نفسه الذي ارتبط اسمه بهذا النصر الكبير, وهو الشخصية التي وقفت على الطرف المناقض لشخصية جنكيزخان من ناحية، ووضع نهاية القصة التي كان جنكيزخان قد كتب بدايتها من ناحية أخرى. كان قطز الذي خرج من بين المماليك الذين عرضوا للبيع في أسواق الرقيق ينتمي إلى أسرة إسلامية حاكمة هي أسرة السلطان جلال الدين خوارزم شاه الذي حارب المغول حتى قضوا على مملكته التي كانت تقع بإقليم كرمان في جنوب جمهورية إيران الحالية سنة 628هجرية /1231م حسبما ذكرت روايات بعض المؤرخين الذين ذكروا أن اسمه الأصلي «محمود بن ممدود», وأنه ابن أخت جلال الدين خوارزم شاه. وكان قطز من بين الأطفال الذين حملهم التتار إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق. وقد أطلق عليه التتار اسم «قطز»، ومعناها «الكلب الشرس» وربما كان تجار الرقيق هم الذين أطلقوا عليه هذا الاسم. وقد تقلب قطز من كونه مملوكا ضمن مماليك ابن الزعيم في دمشق حتى صار سلطان الديار المصرية والشامية. إذ ترقى في الخدمة حتى صار أكبر مماليك السلطان المعز أيبك التركماني، وربما كان أول ظهور له على صفحات التاريخ ما ذكرته المصادر عن اشتراكه في قتل فارس الدين أقطاي. وكان قطز أحب مماليك المعز أيبك وأقربهم إلى قلبه. وعندما قتل أيبك في المؤامرة التي حاكتها شجرة الدر، خلفه ابنه الصبي ذو الخمس عشرة سنة على عرش السلطنة تحت اسم الملك المنصور علي تحت وصاية قطز الذي انتهز الفرصة لتوطيد مركزه . زادت قامة الأمير قطز السياسية طولا مع وجود السلطان الصبي الذي كان يقضي وقته في ركوب الحمير بالقلعة «.... ويلعب بالحمام مع الخدم ...» في وقت بدأت أصداء طبول الحرب التتارية تتردد على حدود سلطنة المماليك الوليدة. وبدأت الحرب تطل بوجهها المرعب على الساحة المصرية، لاسيما وأن أعدادا كثيرة من اللاجئين من جحيم المغول هربوا من الشام إلى مصر ومعهم كل صنوف قصص الرعب والهول. وتم عقد اجتماع بالقلعة انتهى بعزل السلطان الصبي وتتويج قطز سلطانا بعد أن أوضح للحاضرين في اجتماع القلعة أن الظروف التي خلقتها غزوات المغول تستدعي وجود رجل قوي على عرش البلاد، وكان هو ذلك الرجل القوي بطبيعة الحال. وقد تولى السلطان المظفر سيف الدين قطز مسئولية إدارة الحرب ضد المغول على النحو الذي بيناه في الصفحات السابقة، ولكنه قتل وهو عائد بنصره الكبير، وتم تتويج قاتله الظاهر بيبرس للسلطان في مكان الاغتيال. وإذا كان كثير من الناس مازالوا يلومون بيبرس على فعلته هذه، انطلاقا من رؤية عاطفية في غالب الأحيان، فإن ما حدث كان أمرا طبيعيا في ظل المفاهيم السياسية لدولة سلاطين المماليك التي قامت على إيديولوجية «الحكم لمن غلب», والتي لم تؤمن يوما بالوراثة سبيلا إلى العرش. ومن ناحية أخرى، كان السلطان سيف الدين قطز يحمل في رقبته دم عدد من المماليك البحرية من رفاق بيبرس الذين تخلص منهم قطز بالقتل أو بالنفي والتشريد، ومن ثم كان الانتقام من أهم الدوافع وراء مقتل السلطان المنتصر. لقد كان بطل عين جالوت ضحية المفاهيم السياسية لعصره، فقد صار الطريق إلى العرش في دولة سلاطين المماليك مفروشا بالدماء وظل كذلك طوال سني هذه الدولة. ولكن الناظر في سيرة قطز يكتشف على الفور أن هذا الرجل الذي لم يحكم سوى أقل من سنة ترك على تاريخ هذه الأمة بصمة وذكرى يفح عطرها حتى بعد سبعمائة وخمسين عاما. وعندما نقارنه ببعض من حكموا فترات طويلة دون أن يتركوا للتاريخ شيئا يذكرهم به سوى الهوان والعار، ندرك أنه يحق لنا تماما أن نتذكر معركة عين جالوت التي جرت ذات يوم من أيام الخريف في تلك السنة على أرض فلسطين. إن معركة عين جالوت لم تكن مجرد معركة عسكرية نتذكرها بين الحين والحين لتدغدغ فينا مشاعر الزهو الكاذبة بماض مجيد لم نسهم في صنعه بشيء، بل لم نحافظ على ذكراه بما يليق، وإنما هى نقطة فاصلة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. فقد جاءت تلك المعركة في وقت كانت التحديات الصليبية ما زالت قائمة على الأرض العربية بكل خطورتها ولولا النصر الذى تحقق في عين جالوت لما تمكن السلطان الظاهر بيبرس وخلفاؤه المباشرون من تحقيق النصر النهائي على الصليبيين وطردهم نهائيا من الأرض العربية. ----------------------------------- لَعَمْرِي لَقَدْ أشجَى تَميماً وَهَدّها على نَكَباتِ الدّهرِ مَوْتُ الفَرَزْدَقِ عَشِيّةَ رَاحُوا للفِرَاقِ بِنَعْشِهِ، إلى جَدَثٍ في هُوّةِ الأرْضِ مُعمَقِ لَقد غادَرُوا في اللَّحْدِ مِنَ كان ينتمي إلى كُلّ نَجْمٍ في السّماء مُحَلِّقِ ثَوَى حامِلُ الأثقالِ عن كلّ مُغرَمٍ ودامغُ شيطانِ الغشومِ السملقِّ عمادُ تميمٍ كلها ولسانها وناطقها البذاخُ في كلَّ منطقِ جرير | |
|