<H2 align=center>التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً وأصل هذا البيت من إشبيلية، انتقل سلفنا -عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن أدنونش عليها- إلى تونس في أواسط المائة السابعة نسبهعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون. لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً، لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدم في أول الكتاب الأول.
ونسبنا حضرموت، من عرب اليمن، إلى وائل بن حجر، من أقيال العرب، معروف وله صحبة. قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة: وهو وائل بن حجر بن سعيد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن مرة بن حميري بن زيد بن الحضرمي بن عمرو بن عبد الله بن هانئ بن جرشم بن عبد شمس بن زيد بن لأي بن شبت بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لأي بن قحطان. وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبار بن وائل.
وذكره أبو عمر بن عبد البر في حرف الواو من الاستيعاب، وأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وقال: اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة.
وبعث معه جارية بن أبي سفيان إلى قومه يعلمهم القرآن والإسلام، فكانت له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأول خلافته وأجازه، فرد عليه جائزته ولم يقبلها. ولما كانت واقعة حجر بن عدي الكندي بالكوفة، اجتمع رؤوس أهل اليمن، وفيهم هذا، فكانوا مع زياد بن أبي سفيان عليه، حتى أوثقوه وجاؤوا به إلى معاوية، فقتله كما هو معروف.
قال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليون من ولده، وجدهم الداخل من الشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب بن معد يكرب بن الحارث بن وائل بن حجر. قال: وكان من عقبه كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس.
قال ابن حزم: وأخوه محمد كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون. وبنو أبي العاصي: محمد، وأحمد، وعبد الله. قال: -وأخوهم عثمان، وله عقب. ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس من تلاميذ مسلمة المجريطي، وهو أبو مسلم عمر بن محمد بن بقي بن عبد الله بن بكر بن خالد بن عثمان بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كريب الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريب- انتهى كلام ابن حزم.
سلفه بالأندلسولما دخل خلدون بن عثمان جدنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقلوا إلى إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان لكريب من عقبه وأخيه خالد، الثورة المعروفة بإشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني، نار على ابن أبي عبدة، وملكها من يده أعواماً، ثم ثار عليه إبراهيم بن حجاج، بإملاء الأمير عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة.
وتلخيص الخبر عن ثورته، على ما نقله ابن سعيد عن الحجاري وابن حيان وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرخ إشبيلية: أن الأندلس لما اضطربت بالفتن أيام الأمير عبد الله تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والاستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى تلك في ثلاثة بيوت: بيت بني أبي عبدة، ورئيسهم يومئذ أمية بن عبد الغافر بن أبي عبدة، وكان عبد الرحمن الداخل ولى أبا عبده إشبيلية وأعمالها، وكان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة، ويولونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون هؤلاء، ورئيسهم كريب المذكور، ويردفه أخوه خالد.
قال ابن حيان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية. ثم بيت بني حجاج، ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيان: هم -يعني بني حجاج- من لخم، وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل، نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلما عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين والمائتين، وكان الأمير عبد الله قد ولى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمداً، وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر، وثاروا بمحمد ابن الأمير عبد الله وبأمية صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروهما في القصر، حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبد أمية بإشبيلية، ودس على عبد الله بن حجاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية، واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجاج، ثم ثاروا به، وهم بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته. وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقتل حرمه، وعقر خيوله، وأحرق موجوده. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلاً غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته، فاستبدوا عليه، وفتكوا بابنه، وتولى كبر ذلك كريب بن خلدون، واستقل بإمارتها.
وكان إبراهيم بن حجاج بعد ما قتل أخوه عبد الله -على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري- سمت نفسه إلى التفرد، فظاهر ابن حفصون أعظم ثوار الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رندة، فكان له منه ردء. ثم انصرف إلى مداراة كريب بن خلدون وملابسته، فردفه في أمره، وشركه في سلطانه، وكان في كريب تحامل على الرعية وتعصب، فكان يتجهم لهم، ويغلظ عليهم، وابن حجاج يسلك بهم الرفق والتلطف في الشفاعة لهم عنده، فانحرفوا عن كريب إلى إبراهيم. ثم دس إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامة، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد، مع ما أشريوا من حبه، والنفرة عن كريب، ثم أجمع الثورة، وهاجت العامة بكريب فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله، واستقر بإمارة إشبيلية.
قال ابن حيان: وحصن مدينة قرمرنة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها مرتبطاً لخيوله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتبهم طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، وببعث إليه المدد في الصوائف. وكان مقصوداً ممدحاً، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه الشعراء فأجازهم، وانتجعه أبو عمر بن عبد ربه صاحب العقد، وقصده من بين سائر الثوار، فعرف حقه، وأعظم جائزته.
ولم يزل بيت بني خلدون بإشبيلية -كما ذكره ابن حيان وابن حزم وغيرهما- سائر أيام بني أمية إلى أزمان الطوائف-، وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.
ولما علا كعب ابن عباد بإشبيلية، واستبد على أهلها، استوزر من بني خلدون هؤلاء، واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الزلاقة كانت لابن عباد وليوسف بن تاشفين على ملك الجلالقة، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء، ثبتوا في الجولة مع ابن عباد فاستلحموا في ذلك الموقف. ثم كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدوهم. ثم تغلب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلت دولة العرب وفنيت قبائلهم.
سلفه بأفريقية ولما استولى الموحدون على الأندلس، وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكهم: عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم، وولوه على إشبيلية وغرب الأندلس مراراً، ثم ولوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكرياء كذلك، فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمهات، ومجرف بابن المحتسب، للأمير أبي زكرياء يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جارية من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا ولي عهده الهالك في أيامه، وأخواه: عمر وأبو بكر، وكانت تلقب أم الخلفاء. انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سني العشرين والستمائة. ودعا لنفسه بها، وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين. واستبد بإفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود. ثم هلك واضطربت الأندلس، وتكالب الطاغية عليها، وردد الغزو إلى الفرنتيرة، بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيان، وثار ابن الأحمر بغرب الأندلس من حصن أرجونة، يرجو التماسك لما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية. وهم بنو الباجي، وبنو الجد، وبنو الوزير، وبنو سيد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعرة، من مالقه إلى غرناطة إلى المرية، فلم يوافقوه على بلدهم
وكان مقدمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي، وبايع مرة لابن هود، ومره لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرة للأمير أبي زكرياء صاحب إفريقية. ونزل غرناطة، واتخذها دارا لملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة مع الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة وأجلب الطاغية على تلك الثغور، فملك قرطبة، وإشبيلية، وقرمونة وجيان وما إليها، في مدة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون سبتة أصهر إليهم العزفي بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صهر مذكور. وكان جدنا الحسن بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب، قد أجاز فيمن أجاز معهم، فذكر سوابق سلفه عند الأمير أبي زكرياء، فقصده وقدم عليه فأكرم قدومه. وارتحل إلى المشرق، فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكرياء على بونة، فأكرمه، واستقر في ظل دولته، ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق، وأقطع الإقطاع. وهلك هنالك، فدفن ببونة. وخلف ابنه محمداً أبا بكر، فنشأ في جو تلك النعمة ومرعاها. وهلك الأمير أبو زكرياء ببونة سنة سبع وأربعين، وولي ابنة المستنصر محمد، فأجرى جدنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضربانه، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو اسحق من الأندلس، بعد أن كان فر أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقل هو بملك إفريقية، ودفع جدونا أبا بكر محمداً إلى عمل الأشغال في الدولة، على سنن عظاء الموحدين فيها قبله، من الإنفراد بولاية العمال، وعزلهم وحسبانهم، على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو إسحق لابنه محمد، وهو جدنا الأقرب، على حجابة ولي عهده ابنه أبي فارس أيام أقصاه إلى بجاية. ثم استعفى جدنا من ذلك فأعفاه، ورجع إلى الحضرة. ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة عل ملكهم بتونس، اعتقل جدنا أبا بكر محمداً، وصادره على الأموال، ثم قتله خنقاً في محبسه. وذهب ابنه محمد جدنا الأقرب مع السلطان أبي إسحق وأبنائه إلى بجاية، فقبض عليه ابنه أبو فارس، وخرج في العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو يشبه بالفضل ابن المخلوع، حتى إذا استلحموا بمرماجنة خلص جدنا محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبي زكرياء من الملحمة، ومعهما الفازازي وأبو الحسين بن سيد الناس، فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبو الحسين بن سيد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكرياء الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص، وسكن لإيثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمر رعى له سابقته، وأقطعه، ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أهل ملكه، ورشحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك، فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدباغ كاتب الفازازي، وجعل محمد بن خلدون رديفاً في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلة والكرامة، ولم يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني، فاصطنعه، واستكفى به عندما نبضت عروق التغلب للعرب، ودفعه إلى حماية الجزيرة من دلاج، أحد بطون سليم الموطنين بنواحيها، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى المشرق، وقضى فرضه سنة ثمان عشرة، وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متنفلاً سنة ثلاث وعشرين، ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى حجابته مراراً، فامتنع.
أخبرني محمد بن منصور بن مزنى، قال: لما هلك الحاجب محمد ابن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار، سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعىالسلطان جدك محمد بن خلدون، وأراده على الحجابة، وأن يفوض إليه في أمره، فأبى واستعفى، فأعفاه، ووامره فيمن يوليه حجابته، فأشار عليه بصاحب الثغر: بجاية، محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين صلفهما بتونس، وبإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والذوين، فعمل السلطان على إشارته، واستدعى ابن سيد الناس، وولاه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدنا محمداً عليها، وثوقاً بنظره واستنامة إليه، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين، ونزع ابنه، وهو والدي محمد أبو بكر، عن طريقة السيف والخدمة، إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزبيدي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده، في العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمه حسن، الوليين الشهيرين. وكان جدنا رحمه الله قد لزمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه، وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقه، وكان مقدماً في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل الأدب بتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حوكهم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
</H2>